سياسة

في اختلال الموازين.. لِمَن تكون الغَلبَة: لميزان القوة أو التحمّل؟

بقلم: محمد عقل هلسة

على رغم أعوام مطوّلة من الصراع وعدد لا يُحصى من الحروب والعمليات، فإن “إسرائيل” لم تتعلّم أن معيارها للانتصار والحسم متباين عما هي عليه الحال لدى أعدائها.
منذ بزوغ فجر الحضارة الإنسانية، رافقت الحروب الصراعات الوطنية، وكانت كذلك مُقدمة لحلها. لم يثبُت أن الدبلوماسية حَلّت أي نزاعٍ تقريباً أو حققت سلاماً، إلا حين أجبرت الحرب أو التهديد بالحرب والقوة الأطراف على الجلوس حول طاولة المفاوضات. وعلمتنا التجارب كذلك أن الحلول الدبلوماسية لا تَنضُج إلا عندما تَجِدُ الأطراف المتحاربة نفسها في مأزق مؤلم في المواجهة، بحيث لا تعود قادرةً على تَحمُّلها. تنطبق المعادلة نفسها على نضال الشعوب من أجل تقرير المصير والاستقلال. فالدول، في معظمها، وُلدت من رحم الدم والتضحية بالنفس.
وفي التاريخ العربي الإسلامي المعاصر، استُخدمت القوة والحصار من جانب قوى استعمارية في طريقها لعودة السيطرة والتطويع، فعاندت الشعوب الحية “مَنطق التاريخ” بفَرضِ الإخضاع بالقوة وانتصرت. فتعرّضت الجمهورية الإسلامية الإيرانية للحرب والحصار ولم يكسراها، وخاضت سوريا حرباً كونيةً أخرجتها رافعة الرأس، واستُخدِم الإخضاع ضد اليمن وشعبه، فلم يزد اليمنيين إلا صموداً، وتحمّل اليمن وشبّ على الطوق وانتصر. ولبنان، مقاومةً وشعباً، ما زال يعلمنا كيف للكف أن تناطح مخرز الجلاد وتغلبه، والشعب الفلسطيني يكتوي يومياً بنار الحروب وفائض القوة والحمم المصبوبة، فلم يركع ولم ينكسر.
لقد كُتب وقيل الكثير عن الصراع العربي – الإسرائيلي، لا القوة المفرطة أثمرت، ولا الحروب قادت إلى إحراز “سلام”، فانعدام الثقة متجذر بعمق على المستويين المعرفي والنفسي. وتعريف الصراع ذاته ظل يُشكّل جُزءاً من المشكلة بين طرفي النزاع، قادت إلى استمرار معضلة “نفي الذات ونزع الشرعية عنها”، إذ إن تحوَّلَ العدو إلى صديق يدعو إلى التشكيك في الذات وشرعيتها. و”إسرائيل”، التي نعرفها جيداً، لم تكن يوماً مستعدةً للتخلي عن السرد الحصري السائد، وتقبُّلِ تجاهل علاقات القوة والهيمنة، وضمان وضع حدٍّ للاستغلال والسيطرة، يسمح باستقلالية حقيقية وحريةٍ لشعب يرزح تحت الاحتلال.
ثم إن كل تفكيرٍ مرتبط بمفاهيم “الموقف” لا يمكن أن يُشكل أساساً لتغيير الوضع والخروج من حالة “الحرب” إلى حالة “قَبول الآخر”، فافتراض وجود ذاتية صهيونية جماعية “عابرة للتاريخ متماسكة” ترتفع إلى مستوى “مسياني” في الصراع، وتضيف بُعداً من القداسة إلى أسباب تعقيد الصراع، وتمثل مشكلة في سياق نزاع ضارٍ مستمر أعواماً.
تتجلى علاقة القوة والهيمنة كذلك في مطالبة “إسرائيل” بالاعتراف بـ”يهوديتها”، انطلاقاً من أنها ثقافة الهيمنة في فلسطين، وهو ما يعني، في السياق التاريخي، أن النظرة الصهيونية السائدة للشعب اليهودي وعلاقته “بأرض إسرائيل” نشأت من الوعد الإلهي “المقدس”، والذي يستند إلى التوراة، والذي لا يترك مجالاً “لمواقف بديلة”، ويستبعد أي منافسة من أي “شعب آخر” على المساحة الكبيرة نفسها من “الأرض”.

إن السردية الصهيونية المركزية تخلق علاقة حصرية وتملّكية بين الشعب اليهودي “وأرض إسرائيل”. وهذه العلاقة “أبدية”، ولا يمكن أن تتغير بسبب تغيّر في مواقف الطرف الآخر هنا أو هناك، ما دامت “إسرائيل” تملك فائض القوة، وهي كذلك رواية رسمية استعلائية لها تداعياتها على أي احتمالٍ مستقبلي “لتنازلات إقليمية” من أجل حلّ ما.
وبالتأكيد، يأخذنا هذا التصور إلى مستوى آخر من “علاقات القوة” التي تحكم سلوك “إسرائيل” مع خصومها، والتي لا تفترض وجود “هوية عربية مستقلة” مسبقاً للاعتراف بها. ووفقاً لهذا الفهم، فإن “الاعتراف” ذاته هو تعبير عن علاقات القوة المهيمنة وترسيخها بين الأطراف المعنية، فـ”إسرائيل” ترى نفسها في علاقة “غير متكافئة”، سلفاً، بمعنى أن المطالبة بالاعتراف المتبادل مع خصومها يمنحها كجانب “مُهيمن” تحديد طبيعة هوية الآخر الذي سيحظى بالاعتراف، والسقف والحدود لما يستحق.
ولا يؤدي الاعتراف بالضرورة إلى حلّ “علاقات القوة والهيمنة”، بل يعني أنه من خلال فعل التعرف إلى مواقف السيطرة، يمكن للطرف المُعترف، “إسرائيل”، أن يؤكد ليس فقط هويته، بل موقعه في السيطرة، فتصبح عملية الاعتراف ذاتها استراتيجية لـطرفٍ واحد لتعزيز تبعية الطرف الآخر له وإخضاعه. فهل لنا أن نتخيل سلوكاً إسرائيلياً في إطار عملية “سلام” أو تطبيع، منفصلاً عن الاستناد إلى “علاقات القوة”، أو يقوم على الوجود المستقل للآخر وهويته واحترامه.

يشير هذا المستوى إلى معضلة المواقف غير المتكافئة تجاه الآخر “العربي”، ويصبح الأمر أكثر إحراجاً عندما تكون هناك تباينات جوهرية في ميزان القوى “المادية”، كما في الحالة الإسرائيلية الفلسطينية، وربما العربية، بصورة أو بأخرى. وانعدام “الندّية” هو واحدة من المعضلات الرئيسة في حل الصراع، أو في مفاوضات “السلام”، فتعريف الصراع بأنه صراع يتعامل مع “حدود كيان سياسي” لا يتوافق مع التصور السائد لدى أغلبية الفلسطينيين، الذين يدركون جيداً ميزان القوى المختل وصعوبة الحصول على دعم دولي لموقفهم، وخصوصاً أن هنالك فجوة كبيرة في “علاقات القوة”.
و”إسرائيل”، وهي تبني سلوكها مع العرب على علاقات القوة، أرادت سلخ هوية الفلسطينيين وإنهاءهم وكيّ وعي العرب، فأبدع العقل اليهودي اختراعاً سمّاه “تقويض الشعب الفلسطيني” في إطار سياسته المتبعة في فلسطين. فعملت حكومات الاحتلال، على امتداد 75 عاماً من الحكم العسكري، بدءاً من اليسار الصهيوني، الذي لم يتخلَ عن استخدام العصا، إلى اليمين، الذي يستخدم عصاً أكثر غلاظة وبطشاً، كل ما في جعبتها لتحقق هذا الهدف.

لكن المفاجأة، بالنسبة إلى كليهما، كانت دائماً أن الفلسطيني، والعربي عموماً، يرفض الانهيار، بل إن رصاصهما وحممهما حصّنت الشارعين العربي والفلسطيني. وعلى رغم أعوام مطوّلة من الصراع وعدد لا يُحصى من الحروب والعمليات، فإن “إسرائيل” لم تتعلم أن معيارها للانتصار والحسم متباين عما هي عليه الحال لدى أعدائها. فعلى رغم نسبة الخسائر والدمار، فإن “حرب لبنان الثانية” حُفرت في الوعي العربي بصفتها انتصاراً بطولياً على الجيش الأقوى في الشرق الأوسط. وتحديداً بسبب حروب “إسرائيل” وفائض قوتها النارية والتدميرية، سيحفظ التاريخ مكانة لائقة في أسطورة النضال بين داوود الفلسطيني المسلّح بالصواريخ “البدائية” البسيطة، وجالوت الإسرائيلي المجهّز بطائرات “أف 16”.

والواقع أن الحالة الفلسطينية الفريدة لم تتَحَدَّ حكومات “إسرائيل” فحسب، بل عاندت أيضاً مقولة ونستون تشرشل، ومفادها “أن لا شيء في التاريخ يمكن حلُّه إلا من خلال الحروب”. ربما في صراعاتٍ أخرى، لكن ليس هنا، فالصراع الإسرائيلي الفلسطيني لا يستجيب للدرس التاريخي، ومفاده أن الدبلوماسية تُحقق نتائج فقط عندما تكون مدعومة بقوة ساحقة.
في الواقع، حتى اضطهاد الشعب الفلسطيني لم يغير نظرة الإسرائيليين إلى الصراع، كما يشير شلومو بن عامي، المؤرخ والسياسي الإسرائيلي المعروف، والذي قاد وفد المفاوضات الإسرائيلي في طابا عام 2001؛ إذ يقول: “على سبيل المثال في فرنسا والولايات المتحدة، خلال حربي الجزائر وفيتنام على التوالي، في كلتا الحالتين، اصطدمت جيوش الاحتلال بالرأي العام القوي المناهض للحرب في الداخل. قال جان بول سارتر: “لقد كان عُنفنا، وليس عنفهم، هو ما دفعنا إلى العودة”. أما في “إسرائيل”، فالعكس هو الصحيح، الحرب ضد الفلسطينيين تُعزز التأييد الشعبي الإسرائيلي لبطش جيش الاحتلال بمزيد من القوة والعنف”.
ربما تستمرّ “إسرائيل” في سياسة تحقيق الردع الموقت عبر استخدام ذكي للقوة المحسوبة من أجل تقليل الضرر الذي يلحق بمواطنيها، مادياً ونفسياً، ومنع الضرر السياسي الناتج من الجولات والمواجهات العنيفة، مستظلة بتنحية “القضية الفلسطينية” جانباً عن جدول الأعمال الدولي، وتضاؤل الحاجة الملحة إلى حل النزاع. لذلك، ستلجأ إلى سياسة “إدارة الصراع” في القضية الفلسطينية من منطلق أن الهدف الواقعي الذي يمكن تحقيقه حالياً، هو تقليل مستوى العنف إلى الحد الأدنى، والانتظار بصبر “لتغييرات منهجية” ربما تأتي لتخدمها في المستقبل.
“الحد من الصراع” عبر إدارته هو نوع من الأرضية الوسطية التي تهدف منها “إسرائيل” إلى المحافظة على الوضع الراهن أطول فترةٍ ممكنة. وقد يبدو حلاً واعداً سهلاً، لكنه محكوم عليه بالفشل، لأن التاريخ أثبت بالفعل فشل الفكرة، ولا “يُمكنك” إمضاء “أعوام أخرى” في تجربة صيغ متعددة للسياسة الفاشلة نفسها، والتي لن تُنهي هذا الصراع على قاعدة فائض القوة، فـ”إسرائيل” تدرك جيداً أن علاقتنا بـها ليست دائماً محكومةً بميزان القوّة، المُختلّ حالياً لمصلحتها، بل بميزان التَحَمُّل، الذي يَصبّ في النهاية لمصلحتنا. وسواءٌ أعجب هذا الأمر بن غفير ونتنياهو أم لا، فللقوة وللرصاص المصهور نتائج سياسية، وهي مُعاكسة دائماً “للانتصار”؛ الهدف الاستراتيجي الذي تدّعي “إسرائيل” السعي لتحقيقه.
ربما كان يمكن للطريق إلى “هناك” أن تكون قصيرة وسهلة لو كان ممكناً محو الفلسطينيين، لكن هذا بالتأكيد لن يحدث، ودفن “إسرائيل” رأسها في رمال “فائض القوة”، والرهان الدائم عليه، هما عين الحماقة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى