من إشكالات الترجمة الدينية.. الترجمة السيميائية ” محمد رسول الله ” (33)
ا.د. عنتر صلحي عبد اللاه | أستاذ علم اللغة التطبيقي وتعليم الإنجليزية – جامعة جنوب الوادي – مصر
السيمياء – وتسمى كذلك السيميوطيقا- Semiotics هو علم العلامات signs، وهو العلم الذي يعني بدراسة دلالات العلامات في عالم البشر، سواء كانت هذا العلامات طبيعية أو صناعية، وما تمثله من رموز. والعلامات علم واسع يشمل الرموز المرئية مثل الهلال والصليب ونجمة داود، وغيرها، كما يشمل العلامات المسموعة في نبرة صوت المتحدث أو سرعة الحديث أو لغة الجسد وحركة العين.
والبعض يعتبر السيمياء جزءا من علم اللغويات لأنه يعني بتفسير الدلالات اللغوية للعلامة، و الأخر يرى العكس، أن اللغويات جزء من دراسة العلامات، لأن السيميطيقا تدرس الجوانب اللغوية وغير اللغوية.
والحقيقة أن علم اللغويات الحديث نشأ في الغرب من رحم علم دراسة العلامات، حيث كانت إشارات عالم اللغة السويسري فرديناند دي سوسير الأولى لمفاهيم العلامة sign و الدال والمدلول signifier, signified
وقد توسع علم العلامات الان ليشمل محددات تحليل الخطاب، وتحليل البنى السطحية والعميقة للكلام وغير ذلك.
وإن كان النبر والتنغيم والتشديد عناصر من العلامات اللغوية المسموعة، فإن هذه كلها تتحول عند الكتابة إلى علامات مرئية هي علامات الترقيم المصطلح عليها مثل علامات التعجب والاستفهام والنقطة والفاصلة. وحديثا بدأت تنتشر علامات الوجوه التعبيرية emojis التي باتت تكتسح عالم الفيس بوك الأزرق.
من جانب آخر، لم يعرف العرب علامات الترقيم الكتابية، وكان حرصهم على تحرى نقل الروايات الشفاهية، في ظل تطور الخطابة. فلما جاء الغرب دراسا- ومستعمرا- للشرق، أحضر معه آلات الطباعة وبها علامات الترقيم punctuation ، وهكذا لا يكاد يخلو نص عربي مرقون من هذه العلامات.
غير أن القرآن الكريم له خصوصية حتى في أسلوب الكتابة، فهو يكتب بالرسم العثماني، وليس له علامات ترقيم، لأنه كتاب يؤدى تلاوة بالدرجة الأولى، وأثناء التلاوة يتعلم القارئ علامات الوقف والوصل والوقوف على رؤوس الآيات، و مظان الوقف الحسن والوقف اللازم والوقف القبيح.
فإذا جاء مترجم معاني القرآن، فهو سيكتب بلغة أخرى، وما ينتجه لن يكون – أبدا- قرآنا موازيا، والترجمة لن تكتب بالخط اليدوي ولن تحاط بسور مثل السور، بل ينبغي أن تخضع لقواعد علامات الترقيم.
لكن النص القرآني – أحيانا- يحتمل معاني كثيرة تبعا لمكان الوقف والوصل. فإذا قلت مثلا: “ذلك الكتاب لا ريب. فيه هدى للمتقين” فالمعنى مختلف عن قولك : ” ذلك الكتاب لا ريب فيه. هدى للمتقين” ، والاختلاف كما ترى في مكان وضع نقطة الوقف الكافي full stop و هو اختلاف يثري المعنى ويعطي دلالة جديدة لا اختلاف تناقض وتعارض. لكن المترجم عليه أن يختار موضعا واحدا لوضع النقطة full stop وبالتالي فهو يضحي بمعنى على حساب الآخر مما يتسبب في ظاهرة شح الترجمة under translation. وربما لا يسمح السياق لشروحات تفسر ترجمات أخرى حسب أماكن الوقف المختلفة مما قد يتسبب في فرط الترجمة over translation وهو ما يحدث عندما يشرع المترجم في شروحات لغوية خارجة عن النص.
والمثال الذي استوقفني لكتابة هذه الخاطرة هو آية سورة الفتح: محَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ۖ
فالآية تضع علامة الوقف عند “رسول الله” ، فيكون الإعراب : محمد – صلى الله عليه وسلم- مبتدأ، و “رسول الله” خبر. لكن العلامة هي (ج) صغيرة يعني استواء الوقف والوصل، فإذا وصلنا، فإن “والذين معه” تكون معطوفة على المبتدأ “محمد”، و يكون الخبر للجميع هو “أشداء”، ويكون ” رسول الله” بدلا لا خبرا.
والفارق في المعنى هو هل الرسول صلى الله عليه وسلم مشمول في وصف “أشداء على الكفار” أم لا؟ وكما ترى فإن هذا التصور يجعل النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام كالجسد الواحد الذي يشترك في الصفات التالية كلها ” أشداء، رحما، سجدا، سيماهم في وجوههم” ، و أما التصور الأول فهو يقصر هذه الصفات على الصحابة فقط، ويجعل الرسول صلى الله عليه وسلم رسولا لله منفصلا عن صفات أصحابه.
قد يسأل البعض، وما المشكلة في التصورين؟ الحقيقة أن المشكلة أن البعض يريد الدفاع عن شبهات يثيرها الغرب المستشرق ضد النبي صلى الله عليه وسلم، فيتمسك بقراءة واحدة، فالغرب يتهم النبي – بأبي هو وأمي- أنه دموي وأنه نشر الإسلام بالسيف، لذا قد يختار المترجم ألا يشرك النبي صلى الله عليه وسلم في صفة “أشداء على الكفار، و يتوقف عند أنه رسول الله، و يضع نقطة بعدها full stop، رغم أن علماء التجويد وضعوا رمزا يحتمل الوجهين.
وهكذا فإن اختيار علامات الترقيم يدل على الإيديولوجية الاعتذارية الدفاعية apologetic
فلننظر ما فعل المترجمون في علامات الترقيم عند ترجمة معاني هذه الآية الكريمة (وبالمناسبة فمن خصوصيات هذه الآية الكريمة أنها جمعت كل أحرف اللغة العربية في أية واحدة):
Sahih International: Muhammad is the Messenger of Allah ; and those with him are forceful against the disbelievers, merciful among themselves.
Pickthall: Muhammad is the messenger of Allah. And those with him are hard against the disbelievers and merciful among themselves.
Yusuf Ali: Muhammad is the messenger of Allah; and those who are with him are strong against Unbelievers, (but) compassionate amongst each other.
Shakir: Muhammad is the Messenger of Allah, and those with him are firm of heart against the unbelievers, compassionate among themselves.
Muhammad Sarwar: Muhammad is the Messenger of God and those with him are stern to the disbelievers yet kind among themselves.
Mohsin Khan: Muhammad (SAW) is the Messenger of Allah, and those who are with him are severe against disbelievers, and merciful among themselves.
Arberry: Muhammad is the Messenger of God, and those who are with him are hard against the unbelievers, merciful one to another.
Muhammad AbdulHaleem:
Muhammad is the Messenger of God.
Those who follow him are harsh towards the disbelievers and compassionate towards each other.
نلاحظ هنا أن كل المترجمين باستثناء بكتال وعبد الحليم لم يضعوا نقطة الوقوف الكافي full stop بعد “رسول الله” ، بل وضعوا بدلا منها إما فاصلة الاستئناف، أو الفاصلة المنقوطة التي يفسر ما بعدها ما قبلها، و بعضهم لم يستخدم أي علامة ترقيم بل أكمل الجملة ب and مباشرة.
غير أن عبد الحليم قد زاد على الجميع بعمل عجيب، فهو لم يكتف بوضع نقطة الوقوف الكافي full stop بل ترك باقي السطر خاليا تماما، وكأنها فقرة كاملة انتهت، وأسقط حرف العطف and ثم بدأ فقرة جديدة تماما بمسافة بادئة indent كما في الصورة المرفقة الملتقطة لترجمته، و من ثم شرع في فقرة جديدة عن “أولئك الذين اتبعوه” و أسقط من النص أنهم “معه”، بل استخدم صفة توحي بالنقد والاستهجان ترجمة ل “أشداء على الكفار” وهي harsh التي تشي بالجلافة والخشونة في التعامل بدلا من strong, forceful التي تؤكد على جانب القوة البدنية والحربية (فهم أشداء على الكفار في حالة الحرب)، لا في حالة السلم التي أمروا فيها بأن “تبروهم وتقسطوا إليهم” ،وبذلك ضيع عبد الحليم جانبا مهما من صفات الصحابة في غمرة اعتذاريته الدفاعية عن تهمة الدموية التي يثيرها الغرب ضد رسول الإسلام، إذا جعله عبد الحليم في موقف منفصل عما فعل أصحابه، و أظهر هذا الانفصال، بالنقطة الفاصلة، ثم السطر الفاصل، ثم المسافة البادئة، ثم إسقاط صفة “المعية” واستبدالها ب ” التبعية” ثم إسقاط حرف العطف، وإسقاط ما يشي بأن الشدة تكون في الحرب بدلا من السلوك اليومي. وكل هذا إنما ظهر لنا من خلال العلامات السيميائية.
و هذا ما جعلني أأتي بصورة ما كتب عبد الحليم. ورغم أنه أستاذي الحبيب، على يديه تعلمت في جامعة لندن، و أشرف على رسالتي في ترجمة القرآن، إلا أني اختلف معه في كثير من جوانب ترجمته التي لها مزايا أخرى كثيرة، ربما نناقشها في مقال آخر.
والله أعلم.