في فكر وأدب سارتر وتوفيق الحكيم.. المرأة على هامش المسرح

د. موج يوسف | ناقدة وأكاديمية من العراق

لوحة من الفن الكوميدي للرسام الروسي (فاليري باريكين)

مسرحيتان لساتر وتوفيق الحكيم أنارتا خشبة المسرح بالضوء الأحمر عندما اقتحما المسكوت عنه اجتماعياً ، فكلاهما إنطلق من البنية الاجتماعية الصغيرة التي كانت ومازالت تنظر للمرأة المومس والبغاء بالعين الرافضة وجودها علناً والمتقبلة له سراً ، وهذه إزدواجية عالقة عند الجماعة البشرية ، وتظهر المرأة المومس في أكثر الكتابات الأدبية أنها جسد يثير شهوة القارئ لا غير . سارتر والحكيم على المسرح قد حررا القارئ والمرأة من هذه المتلازمات ، فمسرحية المومس الفاضلة لساتر التي كتبها في عام 1946 تعري المجتمع الأمريكي من شعاراته الديمقراطية وتكشف عيوبه فهي تنطلق من مشهد الرجل الزنجي المتهم باغتصاب الفتاة الشابة ، الذي يدخل شقتها ويطلب منها أن تبرءه ، فهي المومس ليزي القادمة من القرية إلى الولايات المتحدة وفي القطار قد تعرضت لمحاولة اغتصاب من البيض فاتهموا السود بذلك . بالوقت نفسه كان عندها زبون مضى ليلة معها وفي الصباح طلب أن تغطي الفراش ؛ كي لا يرى الخطئية ـــ بحسب قوله ـــــ التي كان في إحضانها وهذا الشخص هو فريد ابن أغنى وأهم أعضاء مجلس الشيوخ الامريكي ، وقاتل السود في القطار هو ابن عم فريد بهذا تقع ليزي المومس في قبضة مجلس الشيوخ والشرطة وسيعهم في قلب العدالة ، فتظهر محاولة إقناعها ، ثم الرشوة ، ثم تدّخل الجانب العاطفي بأن هذا المتهم من عائلة كبيرة له أم مسنة تموت أن حكم عليه بالسجن. موقف صعب يمرّ على تلك المومس الشابة ؛ لتعلن رفضها لمغرياتهم بالمقابل تكشف قوتها أمام عظمتهم ثوريتها على عدالتهم ، فيهددونها بالسجن ؛ لأنها زانية ! في نهاية المشهد تصرخ إن الزنجي بريء . المرأة المومس تعدّ من الهوامش في المجتمع ، وهذ الأخير أثر على الأديب فدخلت في الأدب ، لكنها عند سارتر أخذت المركز وصارت تتلاعب بمجريات الحدث فمن الجانب الفني نرى ليزي أصبحت المركز ، الذي أتكأ المسرح عليه وهي قادت زمام المشاهد والشخصيات واشتدت الحبكة عندها حينما رفضت عدالتهم الزائفة . ومن الجانب الاجتماعي ونظراتها للمومس السلبية نحلظ أنه مزدوج الرؤيا ، فمن ناحية يجرمها على خطئتها ، ومن ناحية أخرى أنه لم يسأل المجتمع نفسه ما العوامل التي قادتها إلى احتراف هذه المهنة؟ أليس الخلل في البنية الاجتماعية ذاتها ؟ والأسرية ؟ و حتى على مستوى الاقتصاد ؟ ساتر في مسرحيته نبذ العنصرية على لسان المرأة ؛ لما لها من تأثير على القارئ كما أنه أظهر الجانب الثاني فيها هو الإنسان. أما توفيق الحكيم في مسرحيته السلطان الحائر التي كتبها عام 1960 تقترب ثيمته من المومس الفاضلة ، يبدأ الحكيم من مشهد المحكوم عليه والجلاد وانتظار الأخير مؤذن الفجر وتكبيراته ؛ ليقطع رأس المحكوم عليه فتتدخل المرأة الغانية وتمنع المؤذن من الآذان بحيلة ؛ فيتوهم الجلاد أن الآذن لم يحدث وبهذا يأتي الوزير فيجده غير معدوم . ويمرّ موكب السلطان والقاضي فيطلق صراخته المتهم بأنّه بريء !! وعند الاستفسار عن سبب الحكم بالإعدام يتضح أن المحكوم رجل يعرف سر السلطان ، فيقول إنَّ السلطانَ عبدٌ لم يعتقه سيده . وهنا تنقلب موازين الحدث فيقع بين حكم ( القانون أو السيف) فحيرة السلطان صارت بين الوزير وسيفه والقاضي والقانون فاختار الثاني . بحسب القانون يعرض السلطان للبيع في مزادٍ علني ، ويتمّ شراؤه من أحد أفراد الشعب ، و بهذا تظهر الغانية مجدداً على المسرح ؛ كونها اشترت السلطان بكلّ ما تملك من أموال وذهب ، فالدولة باعته والشعب اشتراه ولا يملك ثمنه الا الغانية ( العاهرة بحسب ما جاء بالمسرحية ) ، فتنتقل الغانية من الهامش إلى المركز على المستوى الفني والاجتماعي ، نوضح الأول للقارئ : في المسرحية ظهر البطل المحكوم عليه والسلطان والوزير والقاضي ، والغانية كان دورها ثانوياً لكن من بعد مشهد بيع السلطان تحتل الصدارة في المسرح فالحكبة تشتد عندها ، بعد شراء السلطان لم توقع عقدَ عتقه الا بعد أن يقضي ليلة عندها فتعود محنة السيف والقانون ، فيختار السلطان الثاني ويقضي ليلة معها ؛ فينكشف الغطاء عنها بعد أن تحكي له ولعها بالأدب والفنون والموسيقى من طفولتها فسيدها علّمها ذلك ، وحتى بعد زواجها منه لم تترك الفن والأدب وعندما توفي ظلت على هذا النمط الحياتي ، وبيتها صار قبلة للفن ، فظّنَ الناسُ أنه للعهر والبغاء، وهي استسلمت لما يقولون وقد أباحت للسلطان أثناء بقاؤه عندها ،ويكافؤها بعد العتق بإهدائه ياقوتة عمامته . يتضح أن توفيق الحكيم أنطلق من بينة المجتمع التي تجرّم المرأة لمجرد قررت أن تعيش بنمط حياة لا يتلاءم مع الجماعة فتنهال عليها أمطار كثيرة من الإتهامات ، ويزيح الستار عن الجانب الثاني للمرأة الغانية في محاولة لتوعية المجتمع وأفراده الذين علقت فيهم الترسبات القبلية ، كما أنه أظهر الثغرات الاجتماعية ، والرؤى المغلوطة وهي إطلاق احكام ظاهرية، عدا أنه جعل الغانية وحدها قادرة على شراء السلطان ، وهذا ما أخفى الحكيم به رسالة خطرة وهي: إنّ السلطان الذي يجعل من شعبه جياع وفقراء وعند وقوعه بأزمة كبيرة ، فإن الشعب لا يشتريه . قدم سارتر والحكيم مسرحاً اجتماعياً يفجر المسكوت عنه ، ويقرع المسرح بأصوات المرأة وحضور فكرها وجوهرها الإنساني .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى