السنن كما عدَّدها القرآن
محمد عبد العظيم العجمي | كاتب مصري
جبل الله الطبع البشري على حتمية الثواب والعقاب، وجعل ذلك دافعا من دواعي استمرار الحياة وملذاتها، فما أجمل أن يجد الإنسان مردود سعيه، وثمرة جهده متمثلة شاخصة كلما جمع عزمه وبذل وسعه ثم تحقق له ما يريد، ثم تتجدد هذه الحالة تلقائيا في النفس البشرية فتشغف أن تضيف إلى رصيدها ونجاحها وإنجازاتها حتى تصل كلما أنجزت وأثمرت إلى حالة من التحقق الحضاري التي نراها شاخصة أمامنا كلما مر التاريخ وضرب الإنسان في عمق الزمن وتتابع الأيام.
لكن النفس البشرية كما ألهمت هذا الشغف المنجز، فكذلك هي قد فطرت على الغرور والبغي والطغيان والخروج على مألوف القيم الفطرية، فكان لزاما كلما اشتطت بدافع الهوى، وشطحت مع نفثات الشياطين أن ترد إلى صوابها وتستعاد إلى رشدها، وهذا هو عين مبدأ العقاب.. فكما كان الثواب دافعا للتحقق الحضاري والإنجاز البشري، والتجدد والتميز فإن العقاب فرض لحفظ الإنسان من نفسه وشططه الذي قد يذهب بما جمع وأوعى، وقد يفسد عليه حياته، وقد يفسد الكون من حوله، هذا الذي قد تناغم مع تكوينه الفطري البيولوجي والنفسي؛ وقد علم منذ القدم أن “من أمن العقوبة أساء الأدب” أو أساء العمل، وقد ورد ذلك في القرآن بينا “كلا إن الإنسان ليطغى . أن رآه استغنى”؛ فهو يطغى لمجرد أن يرى في نفسه ذلك ولو يكن متحققا واقعا، إذ لا سبيل له للاستغناء وقد احتاج إلى كل ذرة في الكون، وقد تزهق نفسه سراعا إن حبست عنه ذرات الهواء دقائق معدودات أو منعت عنه قطرات الماء .. فكيف به يشرأب بعنقه، ويثني عطفه، ويصعر خده وقد علم أنه لن يخرق الأرض ولن يبلغ الجبال طولا؟!!
ولما كان هذا المبدأ ناموسا كونيا في الكون عامة وفي الإنسان خاصة، فإن الإنسان قد اختار أن يطبقه على نظم الحياة الاجتماعية التي يحياها مع بني جنسه حتى يتحقق له في اجتماعه مع بني جنسه ما تحقق في سيمفونية الكون الحية جميعها بما فيها الإنسان؛ مما يؤكد أن هذا المبدأ قد أقر العقل البشري بضرورته لصلاحية استمرار الحياة وديمومتها.
وقد ضرب القرآن لنا مٌثُلا من حيوات الأمم السابقة التي ضربت عليها هذه النواميس الكونية، والمبادئ الإلهية والسنن الربانية التي لا تجد لسننتها تبديلا، ولا تجد لسنتها تحويلا.. هذا الاستخلاف الكوني الذي أراده الله للإنسان للإعمار والعبادة لا يكون انفكاك لكلا الغرضين عن الآخر، فلا يكون عبادة إلا بتحقيق الاستخلاف والإعمار والحكم الذي يحقق الأمن ويحفظ النفس والعقل والدين والعرض، كما لا يكون استخلاف حقيقي أو تمكين إلا كما أراد الله لخلقه أن يعبدوه لا يشركوا به شيئا ويصرفوا إليه الفضل والشكر أن جعل لهم مثل هذا التمكين في الأرض، وأدنى لهم وأذعن قوانين ومفردات الكون.
فإذا كان ثمة انحراف عن قوانين السماء، وسنن الفطرة فإن السماء تتدخل لتقيم الملة العوجاء، وتفتح الآذان الصم والأعين العمي، فإذا ما نكصت العقول على أعقابها، وارتدت على أدبارها وقد جاءتها النذر تلو النذر من بين يديها ومن خلفها، كان عقاب السماء رادعا قاطعا، لا يبقي من آثار المعرضين ولا يذر!!.
ثم تنقل خبر هذا الإهلاك الذي حاق ببعض الأمم إلى من بعدها من الأمم في رسالتها التي اختصت بها، وعلى لسان النبي الذي كلف بتبليغ الرسالة إليهم لعل يكون في خبرهم عبرة لما استقبلوا من منة الاستخلاف، وما كلفوا من إقامة التوحيد وإخلاص العبادة وإجابة داعي الخالق الذي مكن لهم في الأرض وخلفهم من بعد ما أهلك من القرون الأول.
وقد جاء خطاب القرآن واعيا شاملا لذلك حيث نقل لك نبأ من قبلنا، وما حاق بهم من العذاب والإهلاك، وما غيروا وبدلوا في دين الله وما نكسوا من الفطر وما خرجوا عن مألوف الشرائع السابقة، كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم “إن القرآن نزل على خمسة أوجه حلال وحرام، ومحكم ومتشابه، وأمثال.. فاعملوا بالحلال واجتنبوا الحرام، واتبعوا المحكم وآمنوا بالمتشابه، واعتبروا بالأمثال .. ” شعب الإيمان/ البيهقي.
ومن محكم السنن الإلهية التي عدها القرآن والتي لا تحيد عنها نواميس الحياة البشرية، ما جاء في كثير من الآيات التي تعلم البشرية منشأ أمرها ومآله: “قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128)[الأعراف].. “وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105)”[الأنبياء].. “اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43)”[فاطر].. “ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131)”[الأنعام].. “وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59)”[القصص].. “..لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)”[الأنفال].
وهذا إيذان للبشرية جميعها الغابر منها واللاحق، أن حكمة الله في الخلق اقتضت أن يكون الاستخلاف والتمكين الحقيقي لأهل التوحيد حتى لو أتت عليهم السنون، وتداولت عليهم الأيام، فإن حتمية العلم الإلهي والعدل الذي كتبه على نفسه تقتضي أن يجعل لهم من بعد العسر يسرا، ومن بعد الضيق فرجا، ومن بين الكرب متنفسا حتى تكون لهم الغلبة والنصرة ، وحتى يمكن لهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم .
ولقد وعى الذين درسوا الكتاب من قبلنا هذه السنن وعلموها، نقرأ هذا في قول النجاشي رضي الله عنه حين سمع كلام جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه فيما ذكر فيه وصف النبي صلى الله عليه وسلم وما يأمر به، فقال “إن هذا الناموس والذي أنزل على عيسى ليخرج من مشكاة واحدة ” إذ أن أخلاق الشرائع لا تتغير مهما اختلف الرسل، وأخلاق الأنبياء واحدة كما قال صلى الله عليه وسلم “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”.. فهو امتداد خٌقٌى لسلفهمن الأنبياء لم يخرج عن مشكاتهم، ولذا علم النجاشي أنه سيمكن له، وسيظهر دينه على من سواه من الدين كله.
كذلك علمه (هرقل ـ عظيم الروم) حين سأل أبا سفيان بن حرب عن وصف النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال بعد سماعه “لئن كان ما تقول حقا، ليملكن موضع قدمي هاتين.. ولئن علمت أني أخلص إليه لأمسحن التراب عن قدميه”؛ ومن ذلك أيضا ما علمه الستة من الأنصار(الخزرج) الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم حين اجتمعوا به فقال بعضهم لبعض ” والله إن هذا النبي الذي توعدكم به يهود فلا يسبقونكم إليه” ، وقد كان من حسن فطنتهم سرعة المبايعة دون تردد وقد علموا أن الله مظهر أمره، وممكن لدينه على الدين كله.
لايخرج الإنسان مهما مكن وعلا، وبغى واستكبر، لا يخرج عن قوانين الفطرة الكونية، ومآل أمره مهما عظم وملك إلى حتمية السنن من الموت والمرض والفقر والغني والسأم والفرح، “فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا”.