جماليات الحكاية في رواية ” أيام بغداد” للأديب خليل الجيزاوي

عبد الحكيم المالكي | ناقد أدبي ـ مصراته – ليبيا

بسهولة وبساطة ويسر وسلاسة يمضي خطاب الحكاية في رواية أيام بغداد للكاتب الروائي خليل الجيزاوي، وهي لعبة أتقنها الكاتب في روايات سابقة، منها روايته المميزة سيرة بني صالح، التي كان يقتربُ فيها من البُعد السيري، وهو يحكي بعض الفصول من السيرة الذاتية، أما في رواية أيام بغداد ينقلنا الراوي مُباشرةً للماضي سنة 1983، ويضعنا في إطار هموم شاب كادح يسعى؛ ليكسب مصاريف دراسته من خلال العمل الصيفي، تبدو الأحداث أغلبها أحداثًا عادية، والشخصيات أيضًا تبدو كذلك لأول وهلة؛ لكن مع السرد أجد أن الراوي نجح في العمل على السهل الممتنع، حيث وضعنا في رحلة محمد جمال، وتجربته وعواطفه، وطريقته المحايدة في تصور الأشياء، فما الأساليب الفنية التي تمكن الراوي عن طريقها من شدنا وجذبنا حتى نكمل قراءة الرواية؟ وكيف تمّ بناء هذه الشخصية لتكن مقبولة، ومتفردة، وقادرة على ربط المروي له بها؟!

أولا: خطاب حكاية الرواية

تحكي رواية أيام بغداد، قصة سفر محمد جمال الدين الطالب الجامعي المصري في العطلة الصيفية للعمل في العراق، نتابعُ في الفصول الأولى من الرواية متاعب رحلة بطل الرواية من السويس إلى العقبة عن طريق العبّارة، ثم من العقبة إلى عمان، ومنها إلى بغداد، وكان الراوي يقومُ ضمن فترة الرحلة بالعودة الزمنية، ليخبرنا كيف كان يستفيدُ ذلك الشاب، من عطلات الأصياف السابقة في العمل بالقاهرة، وذلك لغرض الحصول على مصاريف الدراسة، وفي الرحلة نحو بغداد تعرفنا على شخصيات مختلفة، كانت كلها تعملُ لإبراز الشخصية المركزية محمد، منها يوسف الذي تعرف عليه في السفر، وأعجب به، كما تعرفنا على رفيقي دراسته السابقين اللذين تخليا عن صحبته، واكتشف أخيرًا أن لهما مشروعات مختلفة، حيث كانا ينويان الاستقرار الدائم في العراق، وقد قتل أحدهما من زوجٍ غيورٍ، وتزوج الآخر من عراقية، وباعتبار أن الزواجَ من عراقية يمنحُهُ الجنسية، فإنه قد وجد نفسه مُجندًا في الجيش العراقي، محمد بعد أن لفَّ عددًا من المدن العراقية، زار خلالها بعض الأقارب، مُحاولا الحصول على عملٍ، كما زار رفيق رحلته يوسف، وانتهى به المطاف في مدينة النجف، حيث ابن خالته علي النجار الذي يعملُ مُديرًا لفندق السلام لصاحبه الحاج عبد الرحمن، وهناك تم تكليفه مُديرًا للفندق بدلا من ابن خالته الراغب في الحصول على إجازة من العمل؛ ليذهب إلى مصر ويتزوج، مع بداية العمل في الفندق أظهر محمد براعةً في القيادة، وحققَ مزيدًا من المكاسب المالية للفندق، كما قام بعمل حلول مُختلفة لكافة المشاكل التي واجهته، وكان حنونًا على العاملين، ممّا أكسبه محبتهم، ومحبة صاحب الفندق، وتعامل بحكمة مع كريمة المشرفة في الفترة الصباحية بالفندق، التي كانت من أقارب صاحب الفندق الحاج عبد الرحمن، كذلك عندما تعرف على ضُحَى بنت الحاج عبد الرحمن، كان يتعاملُ معها بحكمة وحذر أيضًا، لكن حدث التوتر عند موت كاظم ابن الحاج عبد الرحمن، حيث صار محمد يقومُ بكافة أعمال الفندق تقريبًا، بعد نهاية ستة أشهر من استقراره في العراق، في نهاية ديسمبر، قام بتصريف مستحقاته المالية، وكان الحاج عبد الرحمن داعمًا له، كما قام بحجز تذكرة وعاد لمصر وسط حزن ووداع حار من كل العاملين، ومن أسرة الحاج خاصةً ضُحَى التي ارتبطت نفسيًا به، حضر بعض المحاضرات في كليته ثم عاد للقرية بعد أسابيع من وصوله قادمًا من العراق، ليلتقي أمه ومجموعة من أقاربه في البلدة، الذين حمل لهم رسائل وهدايا أقاربهم من العراق، عاد للدراسة بعد نهاية عطلة منتصف السنة مع رفاقه، وتتوقف الرواية عند نهاية الدراسة وحيرة محمد أن يعودَ للعراق مرةً ثانيةً، أو يبقى في مصر، ولعل أكبر ما يُربكُهُ تلك العلاقة التي نشأت بينه وبين ضُحَى ابنة الحاج عبد الرحمن، التي كانت تراسلُهُ راجيةً عودته.

ثانيًا: خطاب الرواية بين أدب الرحلة وكتابة المذكرات

تميزت الرواية بذلك التداخل المميز بين ما يشبه أدب الرحلة، من مغامرات واستكشافات الشخصية الرئيسية محمد جمال، ومع ما يشبه كتابة المذكرات.. التذكر، من خلال سرد ما تتذكره الشخصية، حيث تابعنا معه في العبّارة، عن طريق الاسترجاع الزمني، ما مَرَّ به من أحداث أثناء عمله الصيفي في السنوات الماضية، سواء في المقهى وظلم صاحب المقهى له، أو في الملهى الليلي بجانب الراقصات والكؤوس، أو في مجال البناء وأعمال الكهرباء، وغيرها من الأعمال البسيطة، وكان الراوي يُحققُ بذلك رسمًا لأبعاد الشخصية وتكوينها من جهة، ومن جهة أخرى، كان يسردُ جُزءًا من المُكون المجتمعي في ذلك الزمن.

ثالثًا: زمان ومكان الرواية

من الجانب الزمني كانت الرواية تُغطي فترةً حرجةً في تاريخ البلدين: مصر، والعراق، مصر بعد وفاة الرئيس أنور السادات مقتولا، والعراق زمن الحرب العاتية مع إيران في صيف 1983، وجاءت مدة زمن حكاية الرواية سنة واحدة من نهاية شهر يونيه 1983، حتى شهر يونيه 1984، وقد تمكن الراوي أن يَعودَ بنا لذلك الزمن، وأن يُصورَ الأشياء حية طازجة، مُشتملة على دقائق وتفاصيل تشعر القارئ أنه أمام ما يشبه السيرة الذاتية، وكانت عدسة السرد تتابعُ محمد جمال مَكانيًا، حيث كانت أداة الراوي لتصوير الأمكنة، وهو يشتغلُ مُقارنًا بين ما يراهُ أمامه في الطريق، أو في العراق بعد الوصول، وبين ما كان يعرفُهُ في مصر، وهذا يدخلُ ضمن سرد يشبُهُ سرد أدب الرحلة، أو سرد المغامرات الشخصية.

رابعًا: بناء الشخصية عبر ثلاثة محاور:

المحور الأول: الشخصية الإنسانية مُتأججة العواطف

جاءت الرواية رواية الشخصية الإنسانية باقتدار، حيث نسج الراوي أمامنا شخصية الشاب المكافح المتزن العاقل، صاحب الرأي السديد، وهو يتوجه إلى بلد آخر، ليحصل على مصاريف دراسته، وعلى الرغم من صعوبة العمل في منطقة الشخصية المحترمة، أو الشخصية ذات الخلق الحسن، لما في ذلك من مثالية، إلا أن الراوي استخدم بعض التقنياتِ السرديةِ التي تجعلُ من الأحداث حيةً، كما كان يُسربُ باستمرار مع هذه الشخصية المثالية، العواطف المتأججة، والمشاعر العميقة التي تجعلُ من المواقف واضحة الخلفية والأسباب، بحيث كانت الرواية بكاملها سجلا للمشاعر والعواطف، وأداةً لاستخراج ما في الإنسان من قيم مميزة عميقة، جعلها الراوي حاضرةً وحيةً.

المحور الثاني: الشخصية المُحايدة حيال القضايا المعروضة

أيضًا ممّا جعل هذه الرواية مميزة حياد الراوي، وحياد الشخصية، حيال أغلب الموضوعات المعروضة، بالإضافة

لقيامه باستمرار بتزويد المروي له بمعلومات حول كافة النقاط والملاحظات التي تواجهه، سواء تلك الثقافية، أو الجغرافية، أو السياسية، وكان في كل ذلك مُتحفظًا رزينًا، وحريصًا على تقديم شد المروي له بلغة مناسبة سهلة، حيث كُنّا نتابعُ تصوير الشخصية للحياة في سوق النجف، أو فوق جسر الرصافي في بغداد، أو فوق جسر المُسيب في مدينة بابل، أو معركة موت الحسين بن علي في كربلاء، أو المساجد في النجف، بسردٍ مُتزنٍ مُحايدٍ.

المحور الثالث: الشخصية المُبدعة القادرة على القيادة

تابعنا منذ بداية الرحلة النباهة التي أظهرها محمد جمال، وبعض التصرفات التي قام بها وأبرزت الجوانب المميزة في شخصيته، باعتباره قائدًا بالفطرة وحكيمًا، كما تابعنا اتزانه عندما تعرف على كريمة المُشرفة في الفترة الصباحية، وسوزان مُشرفة الفترة المسائية، كما تعرف على ضُحَى بنت الحاج عبد الرحمن، أو عندما شرح لها بعض الدروس، ولعل جُزءًا من المشكلة التي عانى منها كانت في شخصيته المحبوبة المقبولة من الآخر، وهو ما نسج الراوي عليه سرده، وجعله مطمعًا للفتيات، وكان مُحايدًا مع كريمة (باستثناء حادثة حلم المنام التي ظهرت فيه كريمة، وكان الراوي يُعيرُ به وتيرة السرد)، كما كان مُحايدًا مع ضُحَى التي ارتبطت به نفسيًا، كما ظهر نجاح الشخصية في صورة علاقته بصاحب الفندق، والبُعدُ العاطفي المُصاحبُ لذلك النجاح.

رواية النهاية المفتوحة

 جاءت الرواية سجلا للعواطف الشخصية وللتصورات وللأفكار التي كانت تتشكلُ وتتكونُ لدى الشخصية الرئيسية: محمد جمال، كما كان الراوي قادرًا من خلال تلك الشخصية المميزة والمثالية على شد المروي لهم، لخطاب روايته، وجعلهم يتابعون المُغامرات التي عاشها بطله في رحلته تلك التي تكادُ تتداخلُ مع أدب الرحلة، كما تابعنا ما يشبه أدب المذكرات ونحن نتابعُ تجاربه السابقة القاسية في بلده مصر، حيث انتقل الراوي بنا للماضي سنة 1983 وكان مُحايدًا في انتقاله ذلك، فتحدث بما هو كائن في ذلك الزمن، دون استخدام التفاصيل المعروفة حاليًا سنة 2019، وكان يُصورُ ما يُقابلُهُ في رحلة العراق بتميز وجمال يشدُ المروي له، بالإضافة لما ذكر سابقًا أجدُ أن من مميزات هذه الرواية نهايتها المفتوحة، حيث تابعنا حيرة الشخصية في أن يعودَ للعراق، أو أن يبقى في مصر، كما كان من مميزاتها المُهمة أيضًا طبيعة تكوينها السردي من مقاطع متتالية، ضمن فصول مُترابطة، مع سردٍ يتمُ الانتباه فيه لكل التفاصيل، بحيث أتصورُ أنها رواية مناسبة لمن يريدُ تحويلها لعمل درامي مرئي، أو سينمائي، بكل يُسْرٍ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى