جنائزيات في “نزلاء المنام”

  بقلم مصطفى سليمان /سوريا

……..

جنائزيات في ” نزلاء المنام “
( 2) الرأس
من المجموعة القصصية( نزلاء المنام) للكاتبة السورية أمان السيد .
———
اشتهت راوية الحدث هنا، من خلال لعبة فيديو شاهدتها، أن تحاكي لعبة قطع رأس. وحانت لحظة “عاطفية” عصفت بها عندما كان رأسه وادعًا في حضنها وقد سلّمها رقبته التي انسابت مثل رقبة غزال على جسدها. رأت أن رأس عاشقها كان ” شهيًا جدًا، ومستسلمًا ” لا يدري ما في رأسها من أفكار تغلي فيه. ابتاعت سكينًا حادة الشفرة من سوق الغجر تكفي شطبة سريعة منه لينشطر رأسه بسرعة البرق.. بينما عاشقها يحلم بأنه بعد قليل، كما هجسَتْ ” سيخترقني راميًا بكل أشواقه بين أنفاسي “.
انتهى الأمر. وبقي الرأس غارقًا ” بتأوهات اللذة التي نبعت من اللذة التي كان يشعر بها، لا من ألم السكين”.
وتم دفن الرأس الذي نسّقَتْ له طريقًا جعلتها مائلة بحيث ينساب إلى مرقده الأخير. دفنته بصمت ودون شهود أو إعلان. مارستْ طقسها الجنائزي وحيدة: ” إنه شعور شخصي يخصّني وحدي. فلِمً أشارك به الآخرين فليس الوقت عيد نحر” .
تختم الراوية- القاتلة جنائزيتَها:
” أشعر بالرأس يحدّق بي وهو ينزلق. لم تكن النظرة حقدًا، أو تضرّعًا، أو استكارًا، كان يشكرني لأنني استطعت أن أبتكر له ميتة مترفة لا يحصل عليها مخلوق عادي”.
قصة غريبة مثيرة ، مخيفة وغنية الدلالات.
لا بد هنا من وقفة عند النزعة المازوشية masochism(المازوخية، المازوكية) في علم النفس السلوكي التي تُنسَب إلى الروائي النمساوي ( ليوبولد فان زاخر مازوخ) مؤلف الرواية الشهيرة: فينوس في الفراء.
والمازوشية نزعة نفسية أو مرض نفسي- جنسي يستعذب فيها المازوشي تعذيبَ الآخرين له .
فالبطلة هنا تناجي نفسها بأن عاشقها يحلم بأنه بعد قليل “سيخترقني” راميًا بكل أشواقه بين أنفاسي” . ما دلالة الفعل “سيخترقني” بضمير المتكلم وبهذا الفعل الحاد؟ هل تشير إلى الممارسة الجنسية الغَصْبية؟ أو قد تكون تحت وطأة النزعة المازوشية عندها أيضًا؟ فالمازوشية والسادية في علم النفس تتداخلان ثم تطغى واحدة على أخرى. علمًا بأن السادية نقيض المازوشية. فعندما قطعت الرأس( المستسلم) رأته(غارقًا بتأوهات اللذة) التي كان يشعر بها! إنها لذة المازوشي. عند القاتل والمقتول معًا. هل هي مثل لذة الراقصة اليهودية: سالومي، وهي تقطع رأس يوحنا المعمدان؟.
وقد نجد في تراثنا بعض المازوشيين كعمر بن أبي ربيعة الذي كان يستعذب بل يحرّض الحبيبة على استبدادها وتعذيبها له :
ليت هندًا أنجزتنا ما تعِدْ وشفتْ أنفسَنا مما تجِدْ
واستبدّتْ مرةً واحدةً إنما العاجز مَن لا يستبدْ
ففي نفسه وَجْدٌ وحزنٌ وهو يعاني منهما ويطلب الشفاء من حبيبة مستبدة ومعذبة له تعذيبًا لذيذًا، ويتهمها بأنها تكون عاجزة ضعيفة إن لم تفعل ذلك.
ونتذكّر ما رواه المؤرخون من استثمار هارون الرشيد للشطر الأخير في مجابهة البرامكة بالنذير القادم إليهم عندما جمع لهم ما فعلوه من فساد واستئثار بالمال والسلطة في عهده ومن وراء ظهره. فلن يكون عاجزًا. واستبد بهم، وكانوا من المقرَّبين إليه منذ الصّبا.
المازوشية في قصتنا هنا واضحة في ثنايا سرد الحدث. فلم تكن، كما مرّ سابقًا، نظرة الرأس المقطوع حقدًا، أو تضرّعًا أو استنكارًا، بل كان يشكر قاطعته لأن ميتته كانت مبتكرة ومترفة فقد بقي الرأس المقطوع غارقًا بتأوهات (اللذة) التي كان يشعر بها!.
كذلك نلمح النزعة الساديّة( نسبة إلى الماركيز دو ساد ) ، وهي التلذّذ بتعذيب الساديّ للآخرين، من خلال متعة قطع الرأس حين حانت اللحظة (العاطفية) التي عصفت بها والرأس وادع في حضنها. فالرأس كان( شهيًّا جدًا ) للقطاف !.
وربما نرى في هذا المشهد الجنائزي الأنثى- المرأة وهي تقتل الذكر- الرجل في أعماقها، وكأنها في عيد النحر. كما كان اللاعب بالرأس في لعبة الفيديو يطلق صيحات ” الابتهاج ” وكأنه في عيد النحر أيضًا. وحدث الذبح أخيرًا.
هل نرى في شخصية قاطعة الرأس ” سالومي” أخرى وهي تقطع رأس يوحنا المعمدان؟
رقصت سالومي عارية . فالرقص فرح . ابتهاج . كما فرح وابتهج قاطع الرأس في لعبة الفيديو. وكما عبرت بطلتنا عن أنها كانت في لحظة عاطفية عصفت بها حين رأت الرأس شهيًّا جدًا( للنحر، الذبح ) وهو في حضنها.
وديك الجن الحمصي ، بحسب الروايات التاريخية الأدبية، ذبح معشوقته الجارية ” ورْد ” وغنّى شعرًا على جثتها، مبتهجًا، حين شرب رمادها خمرًا. قد تكون قصة ديك الجن ملفّقة، وقد تكون حدثتْ. وحتى لو كانت مجرد قصة أدبية فلها أيضًا دلالاتها العميقة النفسية والسلوكية…مثل أي قصة فنية كقصة الرأس هنا.
لكن القاتلة قاطعة الرأس هنا امرأة . وديك الجن القاتل رجل. وأرى أن العنصر الذي يجمع بين القصتين والشخصيتين ليس جنس المجرم، بل هو العشق المرضي المنتقم القاتل. إنه العشق المهووس أو الانتقام المهووس مع ألم اللذة، ولذة الألم.
ربما أكون في تحليلي وتفسيري قد شطّطْت بعيدًا، وكنت مثل مَن يصطاد عصفورًا بصاروخ ؟.
النص الغني المكثَّف يوحي بوفرة التأويل، الذي قد يتنافى أو يتناقض أو يتعارض مع رؤية الكاتب نفسه، أو مع القارئ الجاد المثقف. وهذا هو النص الغني بوفرة التأويل.
———
مصطفى سليمان
اللاذقية – سورية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى