الصورة وإنتاج الدلالة.. قراءة أسلوبية في قصيدة:” الأرملة المرضع ” لـ” معروف الرصافي “
د. جمال فودة | عضو الاتحاد العالمي للغة العربية – كاتب وناقد من مصر
هذا المقال مُهدى لصاحب فكرته الأستاذ الدكتور: إبراهيم خفاجة
تُعدّ الصورة الشعريّة سمة أسلوبيّة يتميّز بها شاعر عن آخر؛ لأنّها انعكاس حتميّ لانفعالاته النفسيّة التي يعيشها، وهي الوسيط الذي نستكشف من خلاله تجربته الفنّيّة ونرصد دلالتها، فهي التّركيبة الفنّيّة التي تحقّق التّوازن بين المستوى المطلوب والمُنجز، أو المتاح تفاوتًا بين التقريريّة والإيحاء الفنّيّ، وهي الفاصل بين الظاهر والباطن.
والتعبير بوساطة الصورة يحمل الشعر إلى تجاوز الظواهر من المعاني ويعبر إلى الحقيقة الباطنيّة، وذلك من خلال تشبيك اللغة الشعريّة المؤثّرة بعلاقات تنشئها بين المفردات من خلال وسائل بيانيّة متنوّعة.
فقصائد الشعر الحديث اتّسمت باعتماد واسع على الصّورة الشعريّة وفضاءاتها، فانبثق منها مجال رحب من الصور التي تحاكي مجالات متعدّدة متّصلة بمواقف من الحياة، كما أنّها أبرزت الخبرات الشاعريّة، ودلّت على مفهوم دقيق للأمور، وبذلك تكون قد نقلت مشهدًا حيًّا وتجربة إنسانيّة وافرة.
وإذا كان الشعر تفكيراً بالصور ـ ومن خلال الصور ـ فإن إدراك دور الصورة في بنية النص الشعري لن يتحقق إلا بتجاوز التشكيل اللغوي إلى أفق الإطار الإيحائيالذي يحيط به، حيث تتعانق مجموعة من الأبعاد النفسية والفكرية والشعورية التي يتألف من امتزاجها وتلاحمها نسيج الصورة الشعرية 0
والصّورة الشعريّة عند (معروف الرصافي) ليست لغة سطحيّة عاديّة، بل مشاهد لأوجه تعبيريّة متعدّدة ومفتوحة على مؤشّرات سيمولوجيّة قد يعنيها الشاعر في مقاصده، أو يحلِّق بها القارئ في فضاءات معنويّة بعيدة؛ ليعيد تشكيل أبعادها من جديد، باعتبارها العنصر الإبداعيّ الأهم الذي يوظفه الشعراء في إحداث الإثارة، وبعث الدّهشة والتّصادم.
وفي هذه المقالة نقف عند أبعاد الصورة الشعرية ودورها في إنتاج الدلالة في قصيدته (الأرملة المرضع) التي يقول فيها:
لَقِيتُها لَيْتَنِـي مَا كُنـــْتُ أَلْقَاهَـا تَمْشِي وَقَدْ أَثْقَلَ الإمْلاقُ مَمْشَاهَـا
أَثْوَابُـهَا رَثَّـةٌ والرِّجْلُ حَافِيَـةٌ وَالدَّمْعُ تَذْرِفُهُ في الخَدِّ عَيْنَاهَـا
بَكَتْ مِنَ الفَقْرِ فَاحْمَرَّتْ مَدَامِعُهَا وَاصْفَرَّ كَالوَرْسِ مِنْ جُوعٍ مُحَيَّاهَا
مَاتَ الذي كَانَ يَحْمِيهَا وَيُسْعِدُهَا فَالدَّهْرُ مِنْ بَعْدِهِ بِالفَقْرِ أَشْقَاهَـا
المَوْتُ أَفْجَعَهَـا وَالفَقْرُ أَوْجَعَهَا وَالهَمُّ أَنْحَلـَهَا وَالغَمُّ أَضْـنَاهَـا
تَمْشِي بِأَطْمَارِهَا وَالبَرْدُ يَلْسَعُهَـا كَأَنَّهُ عَقــْرَبٌ شَالَـتْ زُبَانَاهَـا
حَتَّى غَدَا جِسْمُهَا بِالبَرْدِ مُرْتَجِفَاً كَالغُصْنِ في الرِّيحِ وَاصْطَكَّتْ ثَنَايَاهَا
تَمْشِي وَتَحْمِلُ بِاليُسرَى وَلِيدَتَهَا حَمْلاً عَلَى الصَّدْرِ مَدْعُومَاً بِيُمْنَاهَـا
قَــدْ قَمَّطَتْهَا بِأَهْدَامٍ مُمــَزَّقَةٍ في العَيْنِ مَنْشَرُهَا سَمْجٌ وَمَطْوَاهَـا
مَا أَنْسَ لا أنْسَ أَنِّي كُنْتُ أَسْمَعُهَا تَشْكُو إِلَى رَبِّهَا أوْصَابَ دُنْيَاهَا
يَا رَبِّ مَا حِـيلَتِي فِيهَا وَقَدْ ذَبُلَتْ كَزَهْرَةِ الرَّوْضِ فَقْدُ الغَيْثِ أَظْمَاهَـا
تَبْكِي لِتَشْكُوَ مِنْ دَاءٍ أَلَمَّ بِهَـا وَلَسْتُ أَفْهَمُ مِنْهَا كُنْهَ شَكْوَاهَـا
قَدْ فَاتَهَا النُّطْقُ كَالعَجْمَاءِ، أَرْحَمُهَـا وَلَسْتُ أَعْلَمُ أَيَّ السُّقْمِ آذَاهَـا
وَيْـحَ ابْنَتِي إِنَّ رَيْبَ الدَّهْرِ رَوَّعَهـا بِالفَقْـرِ وَاليُتْمِ، آهَاً مِنْهُمَا آهَـا
كَانَتْ مُصِيبَتُهَا بِالفَقْرِ وَاحَدَةً وَمَوْتُ وَالِدِهَـا بِاليُتْمِ ثَنَّاهَـا
هَذَا الذي في طَرِيقِي كُنْتُ أَسْمَعُـهُ مِنْهَا فَأَثَّرَ في نَفْســِي وَأَشْجَاهَـا
حَتَّى دَنَوْتُ إلَيْهَـا وَهْيَ مَاشِيــَـةٌ وَأَدْمُعِي أَوْسَعَتْ في الخَدِّ مَجْرَاهَـا
وَقُلْتُ: يَا أُخْتُ مَهْلاً إِنَّنِي رَجُلٌ أُشَارِكُ النَّاسَ طُرَّاً في بَلاَيَاهَـا
سَمِعْتُ يَا أُخْتُ شَكْوَى تَهْمِسِينَ بِهَا في قَالَةٍ أَوْجَعـَتْ قَلْبِي بِفَحْوَاهَـا
هَلْ تَسْمَحُ الأُخْتُ لِي أَنِّي أُشَاطِرُهَا مَا في يَدِي الآنَ أَسْتَرْضِي بِـهِ اللهَ
وَقُلْتُ يَا أُخْتُ أَرْجُو مِنْكِ تَكْرِمَتِي بِأَخْذِهَـا دُونَ مَا مَنٍّ تَغَشَّـاهَـا
فَأَرْسَلَتْ نَظْرَةً رَعْشَاءَ رَاجِفَـةً تَرْمِي السِّهَامَ وَقَلْبِي مِنْ رَمَايَاهَـا
وَأَجْهَشـَتْ ثُمَّ قَالَتْ وَهْيَ بَاكِيَـةٌ وَاهَاً لِمِثْلِكَ مِنْ ذِي رِقَّةٍ وَاهَـا
أَوْ كَانَ في النَّاسِ إِنْصَافٌ وَمَرْحَمَةٌ لَمْ تَشْكُ أَرْمَلــَةٌ ضَنْكَاً بِدُنْيَاهَـا
تبدأ القصيدة بهذه الصورة المحورية تَمْشِي وَقَدْ أَثْقَلَ الإمْلاقُ مَمْشَاهَـا؛إذ تتمحور القصيدة كلها حول هذه الصورة التي تتحول إلى بناء رمزي متكامل لموقف شعوري،وفي داخل هذا البناء تتوالى صور جزئية تقوم على علاقات مألوفة أو غير مألوفة،وإزاء هذا التشكيل الفني يتسع مجال الدلالة ويتكشف في كل مقطع جانب من جوانبها.
ومن ثم يستقطب البناء المركزي حوله مجموعة من الصور والإيحاءات التي تدور في فلك الصورة المركزية فتعمق إيحاءها وتضاعف عطاءها، لتكشف رؤية الشاعر وتجسد ـ بإيجاز ـ أبعاد تجربته، وتتوالى الصور الجزئية في سياق القصيدة لتفصيل إجمال الصورة المركزية بالوقوف على خطوطها وألوانها التي تلقى بظلالها على بنية النص وصوره.
يسعى الشاعر في المقطع الثاني لتعميق الإحساس بهذه الدلالة التي تحملها الصورة ” الأم ” من خلال باقي الصور التي تتمركز حول محورها،يقول:
بَكَتْ مِنَ الفَقْرِ فَاحْمَرَّتْ مَدَامِعُهَا
وَاصْفَرَّ كَالوَرْسِ مِنْ جُوعٍ مُحَيَّاهَـا
مَاتَ الذي كَانَ يَحْمِيهَا وَيُسْعِدُهَا
فَالدَّهْرُ مِنْ بَعْدِهِ بِالفَقْرِ أَشْقَاهَـا
المَوْتُ أَفْجَعَهَـا وَالفَقْرُ أَوْجَعَهَا
وَالهَمُّ أَنْحَـلَهَا وَالغَمُّ أَضْنَاهَـا
أول صورة في المشهد السابق هي صورة ” الأرملة المرضع” التي تميل إلى تقريب المسافة بين الدال والمدلول، فالبكاء بلغ من العين منتهاه فاحمرّت، والضنى خط آثاره على الوجه فاصفرّ، والبكاء والمعاناة نتيجة فقدان السند،هذه القابلية للتأويل في إطار الصورة تعززها اللقطات التالية حتى تفضى بها إلى تجسيد دلالتها من خلال الاستعارات: الدهر أشقاها ، والموت أفجعها ، والهم أنحلها ،جاءت كلها منبثقة من جزئيات الواقع الذى عايشه بعد أن أضفي عليها من ذاته المرهفة بالحذف و الإضافة ، لتصبح مزيجاً من الرؤية و الرؤيا معاً . ومن ثم تتشابك أحزان الشاعر وهمومه في نسيج واحد.
كَرُّ الجَدِيدَيْنِ قَدْ أَبْلَى عَبَاءَتَهَـا
فَانْشَقَّ أَسْفَلُهَا وَانْشَقَّ أَعْلاَهَـا
وَمَزَّقَ الدَّهْرُ، وَيْلَ الدَّهْرِ، مِئْزَرَهَا
حَتَّى بَدَا مِنْ شُقُوقِ الثَّوْبِ جَنْبَاهَـا
تَمْشِي بِأَطْمَارِهَا وَالبَرْدُ يَلْسَعُهَـا
كَأَنَّهُ عَقْرَبٌ شَالَـتْ زُبَانَاهَـا
حَتَّى غَدَا جِسْمُهَا بِالبَرْدِ مُرْتَجِفَاً
كَالغُصْنِ في الرِّيحِ وَاصْطَكَّتْ ثَنَايَاهَا
وهنا جاء الرصافي بتشابيه عكست حال الضياع التي حلّت بالأرملة بعد فقد عائلها، فنراه في تعبيره يعكس حال الضياع التي تعيشها، متأرجحًا من ضياع إلى ضياع، ضياع وجودي، وضياع نفسيّ، وضياع شعوريّ، وضياع فكريّ…، ويسكب ذلك كلّه في تشابيه متنوّعة تبعًا لمنسوب انفعاله وتأثّره،
تَمْشِي بِأَطْمَارِهَا وَالبَرْدُ يَلْسَعُهَـا
كَأَنَّهُ عَقْرَبٌ شَالَـتْ زُبَانَاهَـا
حَتَّى غَدَا جِسْمُهَا بِالبَرْدِ مُرْتَجِفَاً
كَالغُصْنِ في الرِّيحِ وَاصْطَكَّتْ ثَنَايَاهَا
فتارة يسوق التشبيه التامّ، وأخرى يحذف أحد أركانه، مما يعكس حال التّشتت والضياع التي تعيشها تلك الأرملة.
والواضح أنّ التشبيه في هذه القصيدة – بأنواعه كلّها – ترجم حالة الألم التي عاشها الشاعر، والحزن الذي كابده جرّاء ما رآه، فكانت تشابيهه وليدة الحزن المخيم على نفسه، والعامل المساعد في إخراج الصورة بحدود معانيها وتشعّباتها، والمترجم العفويّ لدلالاتها البيانيّة والمعنويّة، والشريك الفعليّ في تظهير المعاني بأبعادها التصويريّة المكثّفة “وتشترك الصورة في توليد بنية المعنى بما تتوفّر عليه من دلالات مكثَّفة، وبما تثيره من أفكار وعواطف في وعي المتلقّي لكي يعثر على الدلالة الشعريّة في النص.
يقول الرصافي:
تَمْشِي وَتَحْمِلُ بِاليُسْرَى وَلِيدَتَهَا
حَمْلاً عَلَى الصَّدْرِ مَدْعُومَاً بِيُمْنَاهَـا
مَا أَنْسَ لا أنْسَ أَنِّي كُنْتُ أَسْمَعُهَا
تَشْكُو إِلَى رَبِّهَا أوْصَابَ دُنْيَاهَـا
يَا رَبِّ مَا حِيلَتِي فِيهَا وَقَدْ ذَبُلَتْ
كَزَهْرَةِ الرَّوْضِ فَقْدُ الغَيْثِ أَظْمَاهَـا
تَبْكِي لِتَشْكُوَ مِنْ دَاءٍ أَلَمَّ بِهَـا
وَلَسْتُ أَفْهَمُ مِنْهَا كُنْهَ شَكْوَاهَـا
قَدْ فَاتَهَا النُّطْقُ كَالعَجْمَاءِ، أَرْحَمُهَـا
وَلَسْتُ أَعْلَمُ أَيَّ السُّقْمِ آذَاهَـا
وَيْحَ ابْنَتِي إِنَّ رَيْبَ الدَّهْرِ رَوَّعَهـا
بِالفَقْرِ وَاليُتْمِ، آهَـاً مِنْهُمَا آهَـا
كَانَتْ مُصِيبَتُهَا بِالفَقْرِ وَاحَـدَةً
وَمَـوْتُ وَالِدِهَـا بِاليُتْمِ ثَنَّاهَـا
في هذا المقطع يتمّ الانتقال بالفكرة من المفهوم الحسّيّ إلى المفهوم التجريديّ، أو من المجرّد إلى مجرّد آخر وتُعدّ المؤثّرات الكامنة في النصّ منبّهات تستفزّ ذات المتلقّي عند تفاعله مع أحداث النصّ، وتكون عامل توتّرٍ دائم يشغل ذاته، فتتكوّن في محصّلة قراءته أحكام تتحدفيما بينها لتُنتج دلالة نصية كاملة.
فالتوتّر في القصيدة انطلق مع ظهور علامات الألم وانعدام أفق الأمل بفعل الفجيعة التي حلّت بالأرملة على إثر فقدان زوجها. وفي ظلّ حزنهاوفقرها فقدت القدرة على التحكّم بمشاعرها؛ فراحت تَشْكُو إِلَى رَبِّهَا أوْصَابَ دُنْيَاهَـا، وجاءت الصور بعد ذلك مقرونة بالتشخيص والتجسيد معًا،
كَزَهْرَةِ الرَّوْضِ فَقْدُ الغَيْثِ أَظْمَاهَـا
قَدْ فَاتَهَا النُّطْقُ كَالعَجْمَاءِ، أَرْحَمُهَـا
وَيْحَ ابْنَتِي إِنَّ رَيْبَ الدَّهْرِ رَوَّعَهـا
بِالفَقْرِ وَاليُتْمِ، آهَـاً مِنْهُمَا آهَـا
وتمثل الصورة القدرة الدالّة على التجسيد المتحقّق، وسرعان ما يحمل الفعل المضارع ما يؤشّر إلى الحقيقة المرّة التي تسم واقعها، فينهمر على نفسها الحزن عن طريق تماس الدلالة بإسقاط حرف العطف بين الجمل إذ يجتمع ” الفقر ” مع ” اليتم” على مستوى تصويري واحد يربط العلة بمعلولها ، خاصة مع تقدم الفاعل” وَمَـوْتُ وَالِدِهَـا بِاليُتْمِ ثَنَّاهَـا” على الفعلفي حركة أفقية تجعل منه مركز ثقل دلالي يستقطب الحدث الناتج عن الفعل، ويؤدى دوراً إضافياً بحلوله في وسط جديد ، كما يظهر ـ أيضاً ـ مع ” فَقْدُ الغَيْثِ أَظْمَاهَـا”
ثم يأتي ” الحوار “وَقُلْتُ: يَا أُخْتُ مَهْلاً … ليوازي بين حالة الفقد الداخلي والخارجي، فتقوم الصور الشعرية برصد أبعاد الدلالة من خلال مجموعة الأفعال (أُشَارِكُ،تَهْمِسِينَ، تَسْمَحُ، أَسْتَرْضِي، أَسْتَبْقِي، أَرْجُو، تَرْمِي، تَصْعَدُ، تَشْكُ، أَذْكُرُهَا، و يَخْفَى) تتحرك الصياغة حركة مزدوجة، إذ تتعلق بالماضي وتشده إلى الحاضر، كما تتعلق بالحاضر وتشده إلى الماضي، فتخلق بهذه الازدواجية معادلاً يوازى تجربتها خارج إطار الزمن، وهى تجربة تجمع بين الذات وموضوعها في لحظة مطلقة تختل فيها العلائق التي تربط بينهما ، أما المعادل فهو الارتداد إلى واقع زمني لاستعادة علاقة من نوع آخر بين الإنسان وأخيه الإنسان ، علاقة قائمة على التواد والتراحم والتعاطف.
لو كَانَ في النَّاسِ إِنْصَافٌ وَمَرْحَمَةٌ
لَمْ تَشْكُ أَرْمَلَةٌ ضَنْكَاً بِدُنْيَاهَـا
وبعد هدأة الحزن الذي ألم بالشاعر؛ يسلّم بالحقيقة المرة (ما جاع فقير إلا بتخمة غني) لكنه لم ينسحب من غمرة الحزن والأسى، بل ظلّ غارقًا في أفكاره، يقلّب نفسه على مواجعها، لتستقرّ معه صوره الشعريّة على هذه الحال، فجاءت مُستهَلَّة بأداة الشرط (لو) الذي يلخص حقيقة الأمر، في البحث عن إيجاد المفقود لا فقدان الموجود!
إن الشعر لا يصبح فناً بمحتواه وإنما بطريقة صياغته لهذا المحتوى، فمن رحم المعاناة ومن الحزن والفقر والانكسارات المتعاقبة تخرج إلى الواقع روح تشع نور الرحمة والمحبة التي تمد طوق النجاة لتلك البائسة.
وهكذا جاءت الصورة الشعرية ” تَمْشِي وَقَدْ أَثْقَلَ الإمْلاقُ مَمْشَاهَـا” صورة مركزية جوهرية تجسد تجربة الشاعر مع (الأرملة المرضع)، وجاءت كل الصور الشعرية بعد ذلك متفرعة منها مؤكدة لها ومفصلة لإجمالها، إذ تصور القصيدة مجموعة من المشاهد، يكاد كل مشهد فيها أن يقوم بذاته، لكننا ما نلبث أن ندرك إدراكاً مهماً أن شيئاً ما يصادفنا في كل مشهد، كأنه يتخذ في كل مرة قناعاً جديداً حتى إذا ما انتهت القصيدة أدركنا أن هذه المشاهد لم تكن أقنعة بل مظاهر مختلفة لحقيقة واحدة.