فلاديمير بوتين .. من أين يستمد حلمه الإمبراطوري؟
توفيق شومان | لبنان
يُنسب للمفكرالروسي ألكسندر دوغين تأثيره في صياغة العقل السياسي والإستراتيجي للرئيس فلاديمير بوتين ، وإذ يذهب كثيرون إلى القول بأن دوغين كان ” ملهم ” بوتين في وقت من الأوقات ، فالرجوع إلى كتابات هذا المفكر وخصوصا كتابه ” أسس الجيوبولوتيكا ” ، يُعتبر أبرز المداخل والمقدمات لمعرفة عوالم الأفكار التي شكلت عقل فلاديمير بوتين .
ثلاثة عناوين إشكالية وجدالية يطرحها الكسندر دوغين في كتابه ” أسس الجيوبولوتيكا ” وهي : الشعب الروسي ورسالته العالمية والحضارية ونقد مفهوم الدولة ـ الأمة ولا معنى لروسيا بدون إمبراطورية ، وشروحات ذلك على الشكل التالي :
ـ الشعب الروسي ورسالته العالمية : يرى ألكسندر دوغين أن للشعب الروسي خاصية رسالية حضارية على مستوى العالم ، ” فالشعب الروسي ينتمي إلى عداد الشعوب ذات الرسالة ، وله أهميته الكونية التي تشمل الإنسانية كلها ، والتي لا تتنافس فقط مع الأفكار القومية ، بل ومع أنماط الصيغ الأخرى من العالمية الحضارية ” ، وهذا الشعب ” وبغض النظر عن الفتن والمراحل الإنتقالية والجوائح السياسية بقي محتفظا بهويته الرسالية “.
ما هي هذه الرسالية ؟
بحسب دوغين ” أن الشعب الروسي وُهب نمطا خاصا من التدين والثقافة اللذين يختلفان اختلافا حادا عن الغرب الكاثوليكي ـ البروتستانتي وعن تلك الحضارة بعد المسيحية التي نمت هناك ، وبصفة النقيض الثقافي والجيوبولوتيكي يجب أخذ الغرب بمجموعه لا واحدة من الدول المكونة له ، والحضارة الغربية المعاصرة ذات توجه عالمي ، أما العالمية الروسية ، فتتباين بصفة جذرية عن الغرب في جميع نقاطها الأساسية ، فهما نموذجان متناقضان ينفي كل منهما الآخر ، وعلى هذا ، فالمصالح الإستراتيجية للشعب الروسي يجب أن توجه ضد الغرب ” .
وفي قائمة ” الرسالية الروسية ” على ما يقرأ دوغين في خاصية شعبه ” أن الشعب الروسي ينطلق في وجوده من أفق لاهوتي خلاصي يكتسب في النهاية معنى مسكونيا عاما ، والحديث لا يدور حول اتساع المجال الحيوي الروسي ، بل حول فرض النمط الروسي الخاص برؤية العالم ، النمط المتشدد في مسألة الآخرة ، وهذه هي المهمة الأسمى للأمة كشعب متوشح بالله ، ويتجلى ذلك بصفة خاصة في إيمان الروس الذي لا يتزعزع بالإنتصارالنهائي للحقيقة والروح والعدالة ، ليس فقط في إطار الدولة الروسية ، بل في كل مكان ، وحرمان الروس من هذه العقيدة الغيبية الخلاصية مرادف لخصائهم الروحي “.
وبناءعلى ذلك ” لم يهدف الشعب الروسي ـ قط ـ إلى إقامة دولة إثنية ومتجانسة عرقيا ، فرسالة الروس تميزت بطابع عالمي ، ولهذا السبب بالذات ، كان الشعب الروسي يسير بطريقة منهجية نحو بناء الإمبراطورية التي كانت حدودها تتوسع وتحتضن خليطا أكبر فأكبر من الشعوب والثقافات والأديان والأراضي والأقاليم ، ومن العبث أن تُعد هذا التوسعية المنهجية صدفة تاريخية ، فهي تمثل جزء لا يتجزأ من الوجود التاريخي للشعب الروسي ورسالته الحضارية “.
ـ الدولة ـ الأمة لا تناسب روسيا : يُقر ألكسندر دوغين بأن نموذج الدولة ـ الأمة ظهر لأول مرة في فرنسا خلال المرحلة الملكية وجرى تثبيته بعد الثورة الفرنسية ، وظهرت هذه الدولة في أوروبا خلال مرحلة السقوط النهائي للوحدة الإمبراطورية الأوروبية ، ويؤكد بأن ” الدولة ـ الأمة لا تدار بالفكرة الإلهية ولا بالشخصية الإرستقراطية البطولية ، وإنما من خلال دكتاتورية القانون ، وهو ما يمنح سلطة هائلة لعلماء القانون والبيروقراطية الحقوقية “.
وهذا النموذج وفقا لدوغين لم تعرفه روسيا ، إذ ” لم تظهر الدولة ـ الأمة في التاريخ الروسي ، وعندما بدأ هذه النموذج يتجذر في أوروبا منذ القرن الثامن عشر، جاهدت روسيا لمناهضته جهاد المستميت ، وبغض النظر عن إصلاحات بطرس الأكبر(1672 ـ 1725) الموالية لأوروبا ، فقد ناهضت العفوية القومية هذا التحلل للإمبراطورية وانقلابها إلى دولة ـ أمة ” ، وكردة فعل على الإصلاحات الليبرالية ، فإن الروس ونخبتهم العليا ” كانوا يتحولون إلى المشاريع الغيبية والتجديد لعادات قديمة ، وتجلى ذلك على أوضح صورة في تسلم العرش من طرف الكسندر الأول ـ 1777ـ 1825ـ مؤسس الحلف المقدس ” بين روسيا والنمسا وبروسيا .
وعلى ما يقول دوغين ” فقط في بداية القرن العشرين اقتربت روسيا اقترابا شديدا من تحقيق الدولة ـ الأمة ، إلا أن هذه العملية أوقفت هذه المرة ايضا ، بسبب دفقة ثورية حملت في اعماقها احتجاجا وطنيا عميقا ضد هذا النمط من بناء الدولة ، والذي ما كان ليتوفر فيه مكان لظهور الرسالة الشعبية الروحية “.
كيف نظر الروس إلى النظام السوفياتي ؟
يقول ألكسندر دوغين ” من خلف الخطابية الحداثوية البلشفية ، تعرًف الروس بصورة غامضة على مُثلهم الغيبية الخاصة ، انتصار الفكرة والعدالة والحقيقة ، واستُقبلت الدولة السوفياتية من طرف الشعب كبناء للإمبراطورية الجديدة ، مملكة النور ومغانم الروح ، لا كوعي لبناء أكثر عقلانية للإدارة والحُكم ، ولم يصبح الإتحاد السوفياتي دولة ـ أمة ، فقد كان استمرارا للتقاليد الإمبراطورية الوطنية المكتسبة بأشكال ظاهرية مضخمة ” كما أنه ” من المستحيل إنكار الحقيقة القائلة بأن البنية المحورية للإمبراطورية السوفياتية كانت باالذات الشعب الروسي الذي جسًد عالميته الخاصة في الأنموذج الإيديولوجي والإجتماعي ـ السياسي السوفياتي ” .
وهذه التقاليد الإمبراطورية بمختلف مراحلها القيصرية والسوفياتية يعتبرها دوغين قوانين وسُنن تاريخية روسية ، ذلك ” أن ثمة قانونا في التاريخ الروسي ، يرى أن الأمور عندما تصل إلى تحويل روسيا إلى دولة ـ أمة تنزل الكوارث ” ، وفي الطريق إلى صد تلك الكوارث والجائحات ” فالروس مستعدون للسير نحو ما لا يمكن تصوره من الضحايا وألوان الحرمان لتحقيق وتطوير الفكرة القومية ، الحلم الروسي الكبير” .
أي حلم هو ذاك ؟
يجيب ألكسندر دوغين على ذلك السؤال ويقول ” أما حدود هذا الحلم فتراه الأمة ، وفق أقل تقدير في الإمبرطورية ” .
ـ لا معنى لروسيا بدون إمبراطورية : هذا العنوان الذي يشكل صُلب الفكرة الإستراتيجية والجيوبولوتيكية لألكسندر دوغين ، مأخوذ من أحد العناوين الرئيسة لكتابه ، واستنادا إلى ذلك يقول ” إذا لن تبدأ روسيا بإعادة بناء المجال المكاني الكبير، أي تلك الآماد الأوراسية المضيعة ، فإنها تلحق الكارثة بنفسها ، ويمكن بسهولة استشراف مسيرة الأحداث إذا اختارت روسيا طريقا آخر غير طريق تجميع الإمبراطورية ” وفي هذه الحالة تغدو الآماد الأوراسية هدفا لكل من :
ـ أ: أن تقفز الصين قفزة يائسة بإتجاه كازاخستان أو سيبيريا الشرقية.
ـ ب : أن تتحرك أوروبا الوسطى بإتجاه الأراضي الروسية الغربية، أي نحو أوكرانيا وبيلاروسيا .
ـ ج : أن يقوم المعسكر الإسلامي بالتكامل مع آسيا الوسطى .
وعلى هذا الأساس ” فإن مجرد التردد في تجميع الإمبراطورية يُعًد تحديا ـ حافزا ـ كافيا لتقوم الآماد الجيوبولوتيكية البديلة الكبرى بالتحرك بإتجاه الحدود الروسية ، وتوحيد الأراضي الروسية لحماية روسيا كمحور للتاريخ محفوف بصعوبات محددة ، إلا أن هذه الصعوبات زهيدة جدا أمام تلك الكوارث التي تحدق إذا لم يجر البدء بتجميع الإمبراطورية ” .
وفي سرد تاريخي ، يقول دوغين ” لا دولة وحيدة الإثنية ، لادولة ـ أمة ، فمنذ أول البدايات ، كانت صورة الدولة الإمبراطورية في طيات روسيا ، بداية من توحد القبائل السلافية وحتى الإتحاد السوفياتي ، وكان الشعب الروسي يسير دون توقف عبر طريق التكامل السياسي والمكاني ونحو بناء الإمبراطورية والتوسع الحضاري ” ، وهذا التوسع كما يقررالكسندر دوغين ” كان يحمل معنى حضاريا بالذات ، ولم يكن على الإطلاق توسعيا مصلحيا يسًيره السعي وراء المستعمرات أو الصراع في سبيل المجال الحيوي ، والنقص في الأراضي لم يكن ـ قط ـ السبب الأصلي لإقامة الروس للإمبراطورية ، فالروس توسعوا كحاملي رسالة خاصة ” .
ويقارن الكسندر دوغين بين روما القديمة وروسيا الحديثة من حيث الأبعاد الحضارية والرسالية ، ليخلص إلى نتيجة مضمونها ” خلافا لروما ، تملك موسكو في ثنايا دافعها الإمبراطوري مغزى ثيولوجيا ـ لاهوتيا ـ عميقا ، ولقد طور هيغل نظرية طريفة بأن الفكرة المطلقة في وضعها الغيبي يجب ان تتجسد في صيغة الدولة البروسية ، لكن بروسيا وحتى ألمانيا غير كافيتين جيوبولوتيكيا لأخذ هذه النظرية بعين الجد ، أما روسيا روما الثالثة ، تستجيب دينيا وثقافيا استجابة رائعة لهذه النظرية ” .
ويعتقد دوغين ” أن النكوص عن بناء الإمبراطورية يعني نهاية وجود الشعب الروسي ، كواقع تاريخي وظاهرة حضارية ، ومثل هذا النكوص يمثل انتحارا قوميا ” ، وفي سبيل تحقيق الإمبراطورية التي تمنع ذاك الإنتحار ” سار الشعب الروسي خطوة بعد خطوة إلى تحقيق هذا الهدف ، وخلال كل مرحلة من مراحل توسيع دولتهم ، كان الروس ينتقلون إلى درجة جديدة من عالميتهم الرسالية ، وذلك بتوحيد السلاف الشرقيين في بادىء الأمر، ثم بإحتضانهم السهوب التركية وسيبيريا ، ثم بزحفهم نحو الجنوب، وانتهاء بتكوين مجمع سياسي هائل بسط سيطرته في المرحلة السوفياتية على نصف العالم “.
ما السبيل إلى إعادة بناء الإمبراطورية الروسية ؟
الطريق واضحة أمام الكسندر دوغين ، وحيال ذلك يقول ” إن وجود الشعب الروسي يرتبط بمواصلة هذه العملية ـ البناء الإمبراطوري ـ وتطويرها وتفعيلها “، وأما إذا جرى ” قطع الخط الإرادي الجيوبولوتيكي لإقامة دولة الفكرة المطلقة ، نطعن الروس في سويداء القلب ونجردهم من الهوية القومية بتحويلهم إلى بقايا تاريخية ، ونقطع العملية الثيولوجية الغيبية الكونية على مستوى العالم ” ، وللوصول إلى الغاية الإمبراطورية يجب تحليل ” أسباب إفلاس الإمبراطورية السوفياتية ” كما يقول دوغين حرفيا ، و ” نقد الأنموذج القيصري ” اعتمادا على الآتي :
ـ أولا: أمام الإمبراطورية الروسية الجديدة أربعة بنود لتحاشي الوقوع في النموذج السوفياتي :
ـ أن تكون لا مادية ـ لا إلحادية ـ ذات اقتصاد لامركزي .
ـ أن تكون لها إما حدودها البحرية أو الأحلاف الصديقة على الأراضي القارية المجاورة .
ـ أن تتميز بالبنية الإثنية التعددية المرنة .
ـ إضافة المرونة على مشاركة الدولة في توجيه الإقتصاد ، فلا تمس إلا آفاقه الإستراتيجية .
ـ ثانيا : أمام الإمبراطورية الروسية الجديدة خمسة بنود مرتبطة بنقد المرحلة القيصرية :
ـ شحن المعادلة الدينية القيصرية بالمضمون الصافي المقدس الذي ضاع تحت تأثيرالغرب العلماني على أسرة رومانوف ، وتحقيق ثورة ارثوذوكسية محافظة من أجل العودة إلى منابع النظرة المسيحية الحق .
ـ تحويل مصطلح الشعبية إلى أفق مركزي ، ومعارضة التصور العضوي للشعب عن طريق المعايير الكمية للقانونية الليبرالية والإشتراكية.
ـ التوجه إلى المشاريع الأوراسية التي ترفض سياسة روسيا المعادية للألمان في الغرب وسياستها المعادية لليابانيين في الشرق ، والتخلص من التوجه نحو الأطلسي.
ـ الحيلولة دون عمليات الخصخصة والرسملة والبورصة .
ـ الإنتقال من مبدأ المحافظات إلى إقامة الإثنية ـ الدينية ذات المستوى الأعلى من الإستقلال الذاتي والثقافي واللغوي والإقتصادي، وتحديدها في استقلالية سياسية وإستراتيجية وجيبولوتيكية وإيديولوجية واحدة .
وانطلاقا من ذلك تسير روسيا نحو بنائها الإمبراطوري ، ذلك أن ” معركة روسيا من أجل السيادة على العالم ، لم تنته بعد ” ، هكذا يقول الكسندر دوغين .
ثلاثة إضافات قبل الختام :
ثمة ما يلفت النظر في علاقات روسيا مع آسيا الوسطى وتركيا ، وهذه ثلاثة آراء وتفسيرات :
ـ المفكرالروسي نيقولا سافيتسكي (1895 ـ 1968) لا يعتبر الروس مجرد فرع من السلاف الشرقيين ، وإنما تكونوا من الجذرين الأساسيين السلافي والتركي ، ولذلك ” لولا التترية لما كانت روسيا “.
ـ المؤرخ الروسي ليف غوميليوف ( 1912 ـ 1992 ) إبن الشاعرة المعروفة آنا أخماتوفا ، يرى أن أصول الفكرة الأوراسية تكمن في التذاوب الإثني بين الأتراك والسلاف ، ومن هذه الأصول تنبثق إثباتية السيطرة الروسية على تلك الأراضي الأوراسية .
ـ الكسندر دوغين ، يدين الحروب الروسية ـ العثمانية التي تعدت الثلاث عشرة حربا ، ويقول ” كان النظام القيصري يقوم دوما بتقويض أسس الدولة الروسية ويسير بها إلى الإنتحار الجيوبولتيكي ، وإلى هذا تنتسب الحروب التركية والحرب مع اليابان ، شيء ينطوي على المفارقة ، لكن يبدو أن روسيا كانت تتوجه بالطريقة الأمثل لخدمة المصالح الأطلسية لفرنسا وإنجلترا ” وهذه إدانة واضحة لمجمل الحروب الروسية ـ العثمانية ، وحول ذلك يعلق دوغين قائلا ” الحروب التركية ـ الروسية ، ما جنى ثمارها الترك ولا الروس ” ، ولعل ذلك يعطي تفسيرات لكيفية تطور العلاقات الروسية ـ التركية الراهنة .
في الختام ، بعض المقاطع الشعرية عن روسيا والكنيسة والإمبراطورية ، وقد أنشدها الشاعرالروسي فيودور تيوتشييف (1803 ـ 1873 ) فقال :
مجددا ستستضيف قباب آيا صوفيا مذبح المسيح
إركع أمامها أيها القيصر الروسي
ومن ثم أنهض قيصرا على سائر الشعوب السلافية.