حياة الريس: في بيت عبد الرحمن منيف كانت لنا أيام
الروائي الكبير عبد الرحمن منيف الذي كان لي شرف معرفته عن قرب في بيته و مع عائلته.. في ذكرى وفاته أكتب هذا النص الذي خصصته له في روايتي عن بغداد.. منيف الذي تربينا على رواياته منذ السبعينيات و الثمانينيات بل صحونا على صرخته المدوية من سجون الانظمة الاستبدادية التي شكلت ظاهرة و صرخة استثنائية في الادب العربي سواء كان في شرق المتوسط او ّ حينا تركنا الجسر ” أو” الأشجار و اغتيال مرزوق … و قصة حب ماجوسية حتى جاءت مدن الملح …
أمّا علاقتي بالروائي عبد الرحمن منيف فقد بدأت بحوار صحفي أيضا. ثم توطّدت وأصبحت عائلية. فقد انسجمت بسرعة مع زوجته سعاد كونها خرّيجة الفلسفة أيضا. وقد وجدت أنّها امرأة مختلفة، في تفكيرها وسلوكها، بعيدة عن صنف النساء التقليديات، فأحببتها وانسجمنا وصرنا أصدقاء يجمع بيننا السؤال الفلسفي والحيرة الوجودية.
من ناحية أخرى اكتشفنا، أن صديقتي، صباح السّورية، على صلة قرابة، مع الدكتور منيف، كما أسلفت ذلك أن إمرأة خالها السيّدة ” حصّة منيف ” السّعودية هي أخت عبد الرحمان منيف.ولما عرف الدكتور ذلك أراد رؤية جهاد أيضا شقيق صباح اللّاجئ السيّاسي في بغداد. وعزمنا ثلاثتنا عنده على الغداء يوم الجمعة…. وأمرنا بأن نأتي كلّ خميس وجمعة لننام عندهم، أنا وصباح، كنوع من الرّعاية والأبوة لفتيات الدّاخلي المغتربات. ولمّا تململنا خجلا من كرمه وأردنا أن نعتذر منه. تدخلت زوجته قائلة:” أوامر الدكتور لا تناقش ” لترفع عنّا الحرج وتحسم الأمر. وكان للدكتور هيبة وكلمة مسموعة وكاريزما… وإذا قيل:” جاء الدكتور ” يصمت من بالبيت، وتتبدّل أحوالنا، ونلتزم الصّمت، ولا نتكلم إلاّ إذا خاطبنا، حياء وإحتراما، كأنّنا في حضرة جنرال. أمّا في بعض سهرات الخميس، التّي قضيناها عندهم، فيتحوّل” الجنرال” إلى إنسان لطيف ودود يسمعنا كثيرا من الشعر والملح والمزح…
وكانت له إبنة، نسيت إسمها، لها ثلاث سنوات، تقريبا،حينها. ولكنّني لا يمكن أن أنسى تلك الطاقة التّي كانت لها في سرد الحكايات والخيال الخلاّق الذي تملكه. كانت تندسفي حضني، على كنبة قاعة الجلوس، مثل قطّة أليفة، وتبدأ في سرد حكايات لا تنتهي…. حتّى أتعب أنا، وأكاد أنام على الكنبة ولا تتعب هي. عقلها مصنع خلّاق، من القصص التّي تبتكرها وترتجلها، لا تشبه فيها قصّة أخرى أبدا…طفلة خرافية الحكي والسّرد. وهل أعجب من إبنة أكبر روائي عربي؟ تحمل السّرد والخيال الخلّاق في جيناتها.
وكثيرا ما كنّا نلتقي، بعائلة جبرا ابراهيم جبرا عندهم. ذلك أنّ الروائييْن كانا على علاقة صداقة، وطيدة وعميقة. وقد كانا يكتبان حينها رواية مشتركة هي: ” عالم بلا خرائط ” قرأتها فيما بعد بكثير من الفضول والحيرة لأعرف متى يكتب منيف ومتى يكتب جبرا؟ لكن التناسق والتشابك الفنّي لهذه الرواية، كان على درجة عالية، يستحيل معها التصديق بأن هذا العمل مؤلف من قبل كاتبين إثنين. وهي ربّما من الأعمال الأدبية النادرة على مستوى العالم العربي التيتكتب من طرف شخصين اثنين (1982)
وبقيت ألّح في السؤال، الذي كان يحيّر النقاد والصحافيين حينها أيضا، حتّى صرّح لي الدكتور منيف ذات مرّة باختصار شديد هامسا متكتّما:”كلّ واحد منّا كتب فصلا”. ولم يزد. وكانا متحفظين على طريقة كتابتها.
وقبل ذلك كانت روايات:” الأشجار واغتيال مرزوق ” أولى روايات الدكتور منيف كتبها سنة (1973) ثم قصّة حبّ ماجوسية (1974) وحين تركنا الجسر (1979 ) والنهايات (1977)وخاصّة ” شرق المتوسط( 1975) للدكتور منيفوسباق المسافات الطويلة(1979)
تلفت اهتمام النقاد والقراءكأخطر ما كتب عن الأنظمة القمعيّة العربيّة. نقرأها ونعيد قراءتها ونتبادلها فيما بيننا لجرأتها، في طرح موضوع، التعذيب، في السجون، الذي تمارسه الانظمة، الشمولية، العربية، في المنطقة وفي شرق المتوسط.
ولا تزال بعض جملها ترن في أذني إلى الآن:” نحن الذين خلقنا الجلاّدين ونحن الذين سمحنا لهم بتعذيبنا، من خلال تساهلنا وتنازلنا عن حقوقنا. ومن خلال إستسلامنا لمجموعة من الأصنام والأوهام… ثم لمّا أصبحنا الضحايا لم نعد نعرف كيف نتعامل مع هذه الحالة “
كما صدى كلمات رجب، بطل الرواية، المناضل، مازالت عالقة بذهني وهويعذّب حدّ الموت تحت كرسيّ الإعترافويقاوم حتى يخرّ جسده….. وهويردّد في أعماق نفسه:” الصّدق مذلّة الصّدق عار”
حتى جاءت ” عالم بلا خراط” التّي كتبت ما بين 1979 و1980
وقد كان إسمها “عموريّه” في الأوّل حسبما كنت أسمع عنها في بيتالدكتور منيف باسم عموريّة وهواسم المدينة التّي اختاراها كمكان لأحداث الرواية وهي مدينة غير موجودة أصلا إلاّ في خيالهما. أراداهاكذلك،لتكون كلّ مدينة في العالم يحدث فيها ما يحدث.
كانت فكرة كتابة رواية مشتركة بين منيف وجبرا قد جاءت كعفوالخاطر من الدكتور عبد الرحمان الذي كان يشرب القهوة في بيت جبرا على عادته كل صباح جمعة حيث يلتقي الكاتبانوكان الحديث يدور حينها حول رواية جبرا “البحث عن وليد مسعود” الصادره حديثا ورواية منيف ” سباق المسافات الطويلة” التي صدرت بعدها فإذا بعبد الرّحمان يخرج عن سياق الحديث ويقترح:” جبرا. ما رأيكفي أن نكتب أنت وأنا رواية مشتركة؟”
ويتحفّز جبرا بعفويته المعهودة وحماسته لكل فكرة جديدة:” والله فكرة حلوة.”
بشهادة الناقد، ماجد السمرائي، الذي كان حاضرا، في هذا اللقاء والذي أسرّ لنا، في الجريدة أنّ مشروعا، جديدا، سيخرج قريبا، في شكل رواية، بين الكاتبين…وبذلك يكون ثالث تجربة مشتركة في الأدب العربي الحديث، بعد تجربة طه حسين وتوفيق الحكيم. وعبد السلام العجيلي وأنور قصيباتي.
وعندما سألت الأستاذ ماجد كيف كتباها؟
قال يبدووحسب ما اطلعت عليه، (لأنّهما متكتمان على هذه التفاصيل) أن واقع الكتابة فيها جرى بالتناوب: يكتب جبرا بضع صفحات، فيأخذها منيف ويواصل الكتابة، ثم يعيدها إلى جبرا ليكمل… وهكذا، حتى اكتملت الرواية التي أخذ منيف مسودّاتها واحتفظ بها لنفسه بعد أن استنسخها كاملة بخطّ يده، وأعطاني نسخة مصوّرة عنها كما كتبها بقلمه هو.”
وكان كلامه مشابها لما قاله لي الدكتور منيف أنّهما كتباها فصلا فصلا تقريبا.