أنا مَن سرقتُ الخيل
خالد جمعة | فلسطين
وكنتِ وكانَ الليلُ وحدَهُ، خائفٌ مثلنا كذلك، ونحنُ نصنعُ العصافيرَ من أجل الفجرِ، لا عصفورَ يطيرُ في هذا الفضاء مرتين، كنّا عشاقاً، عاديين، نكتب كلمات الحب على جذوع الأشجار الكبيرة، ونقطف ورداً لبعضنا حين نهرب من مراقبة آبائنا في طريق المدرسة، وفي لحظة الانفجارِ تلكَ، فقدتُ أنا حاسة السمعِ، ولم تعد تغريني العصافير، وأنت فقدتِ حاسة الحياة، ولم يعد يغريك المشوار اليومي إلى المدرسة، أما الأشجار فما زالت تحتفظ بأسمائنا.
أعبريني مثل تاريخٍ طويل، دوسي بقدمين حافيتين في قلبي، كي أشعر بنبض الحضارة في عروق أقدامكِ التي طهّرَتها المسافاتُ والصلواتُ الطويلةُ، أعبريني كي أزيدَ قداسةً وحظّاً في البقاء، أعطِ كلَّ خطوةٍ إسماً وتاريخاً كي لا يسرقَ الخاسرونَ مجدَكِ ليصنعوا منه قلائدَ وذكريات، ضعي بصمةً عميقةً فوق جلدي كي يصيرَ كلُّ عِرقٍ نهراً، وكلّ انحناءةٍ جبلاً، وكلّ مسامٍ غابةً، وكلّ إصبعٍ طريقاً، وكلّ شعرةٍ حضارةً، وكلّ مفصلٍ تاريخاً، عززيني بالأغاني، ودعي صوتكِ يهدلُ في فضاء روحي لأحملَ جرحي على الصراخ، فالجرحُ لا يقتلُ صاحبه إلا حين يكفّ عن الصراخ.
أنشئيني كما أنشأتِ البلادَ أول مرة، فرّقيني على الغيمِ كي أسقطَ نقطةً نقطةً، واجمعيني من بين الحشائش مثلما تفعلين مع بقايا الأدعية، واغسليني بالكولونيا وماء المطر، ضعيني في حِرزٍ قرأتِ عليه آيتين قبلَ أن تمسّي بقاياي بيدك النبيلة، وخبئيني تحتَ سقف ثوبِكِ الآتي من رحلة الألف سنة، دعيني هناك ألف سنة أخرى، وانثريني بعدها على الجبلِ بين الزعتر البرّي، في يومٍ تلعقُ دقائقه الريح، هكذا فقط، أعرف أنني ذهبتُ إلى الخلود.
خبّأتِني أعواماً في ثنيةِ الثوبِ المغرّزِ بالحنين، كنتُ فكرةً غَزَلَتْ حريرَها من أجلِكِ، وكنتِ أمّي أحياناً، ابنتي أحياناً، وشجرةَ ليمونٍ أحياناً، وعشبةُ بابونج أحياناً، وزادَ المسافرِ في الصحراءِ أحياناً، والمسافة بين نجمين أحياناً، رغبة في البكاء أحياناً، ساعة الرقص أحياناً، هل أبكيكِ الآنَ أم أنتظر مأساةً أخرى؟
أنا من سرقتُ الخيلَ قبل المعركة من أجلكِ كي أمنع الحرب، نعم أنا من قتلتُ صاحب الطبلِ كي لا يعلن المعركة، نعم أنا من خبأتُ الصحراءَ تحت جلدي كي لا يستخدموها ساحة حرب، نعم أنا من لوّنَ الملابس بنفس اللون حتى لا تتميز الجيوش فتحدث الحرب، نعم أنا من أثلمتُ السيوفَ كي لا تغري الفرسان بالحرب، نعم أنا من قتلتُ العرافين كي لا يتنبأوا بالحرب.
فكيف حدثت الحرب إذن؟