سيمياء الأهواء في مجموعة (ربما يطلع الفجر)  للقاص هيثم محسن الجاسم

أ. د. مصطفى لطيف عارف | ناقد وقاص عراقي

هناك فاصل بين الهوى باعتباره تجاوزا للحدود العتبات الثقافية وبين المشاعر التي تشير إلى حالات اعتدال تفرضها ثقافة ما وتحتكم إليها من أجل قياس حجمها وتصنيفها, فالحكم لا ينصب على كينونة المشاعر في ذاتها، بل على الفائض الانفعالي الذي يحول المشاعر إلى هوى , وقد أكد كريماس في كتابه على نسبية الأهواء بين الثقافات لذلك فإنه سيعتمد في دراسته للأهواء باعتبارها مدونة هووية تكشف عن التمفصلات الكبرى لصنافة ممتدة في ثقافة بأكملها واعتبر الأهواء صنافات إيحائية بمعنى أن لكل هوى استعمالات مخصوصة داخل دائرة ثقافية بعينها فما يعد بخلا في هذه الثقافة يعد ادخارا في ثقافة أخرى,ما هو أساسي، عند كريماس، في دراسة الهوى ليس هو التعرف على العلاقات الدالة على الأهواء، بل الاهتمام بآثارها المعنوية كما تتحقق في الخطاب لأن هدف الكتاب كما يقول سعيد بنكراد: ليس تقديم صنافة شاملة ممتدة لسلسلة من الأهواء كما يفعل ذلك الفلاسفة ,وعلماء النفس وغيرهم، ولا يتعلق الأمر بإصدار جملة من الأحكام الاجتماعية والأخلاقية التي تدين هذا الهوى أو ذاك، بل إن هوى السيميائيات هو هوى تركيبي دلالي لا يلتفت إلا للممكنات الكامنة التي يمكن أن تتجسد من خلال وجود الأدنى كما تتحقق في القواميس,يتعلق الأمر إذن، في سيميائيات الأهواء، بدراسة الهوى باعتباره سابقا عن الممكنات الدلالية المستثمرة، فهو من حيث الطبيعة وممكنات التركيب يعد سلسلة من الحالات الانفعالية التي تتطور خارج البعدين المعرفي والتداولي المكونين الرئيسين في النص السردي، إنه يشكل مسارا جديدا يطلق عليه المؤلفان البعد الانفعالي[1],ونجد ذلك واضحا في المجموعة القصصية (ربما يطلع الفج) للقاص المتألق هيثم الجاسم فنراه يقول : ألقيت نظرة عامة على الشارع الذي ضم حانوتي, كانت المحال المفتوحة أمام الزبائن مترعة بسلع كاسدة مغبرة أحكام الكساد قبضته على السوق حال بين البائع والمشتري مخلفا هوة سحيقة تصل حد الصراع الدامي خاصة عندما يعجز المتبضع عن دفع فاتورة الحساب وتتدهور الحياة أكثر وبتثاقل  الزمن ويطول الألم والقلق والاحتباس بين شروق الشمس وغروبها على ارض موحلة ووجوه بلا ملامح تعكس ظلالا داكنة على الأخاديد الغائرة في صفحات الوجوه المتغضنة [2], استطاع الكاتب الجاسم  تصوير الأهواء النفسية في اشد الظروف التي مرت على العراقيين, في زمن الحصار الجائر, وهو يصور لنا مأساة الزمن الماضي عبر قدرته التصويرية, والفنية, ويجعلنا نشاركه الأحداث وكأننا نعيش معه في نفس اللحظة, الحدث, والزمن, إن ظهور الأهواء والعواطف الإنسانية في فضاء الصرح السيميائي قد أعاد مباشرة الاهتمام إلى الحياة الداخلية للذات بعد ما ثم استبعادها تحت إكراهات الخلفية البنيوية,لذلك فقد فرضت مقاربة هذا البعد من الناحية الإجرائية تشكيل مفهومية خاصة.

وقد أثمرت بالفعل الطاقة التنظيرية التي يتمتع بها الباحثان مفاهيم تتميز بغنى حمولتها الدلالية والمعرفية ,ومن أهم المفاهيم التي تحدث عنها الباحثان: الاستهواء هو المادة التي تتشكل منها الأهواء فبدون استهواء لا يمكن الحديث عن الأهواء،وهو القوة الانفعالية الكامنة التي يستند إليها خطاب الأهواء لرسم عوالمه بمعنى أنه الصيغة الأولى للكينونة فالذات العارفة قبل أن تحدد لنفسها مسارا يسميه المؤلفان التجسيد فإنها لم تكن سوى شبه ذات أي ما يمكن أن يخبر عن أي إحساس سابق عن أي تمفصل وهو ما يسميه المؤلفان الاستهواء[3], دموع أم عمار على خديها وانتحبت باكية, تساءلت محدثة نفسها عن سبب موت شجيرتها العزيزة قبلت الأوراق بين كفيها أحضرت احد المزارعين الخبراء بأشجار الورد, هز رأسه وتمتم بكلمات الم أم عمار سماعها, قررت أن تأتي بأخر حتى يئست من إنقاذ شجيرتها استسلمت للقدر [4], في هذه القصة الرمزية التي استطاع السارد أن يطبق نظرية الاستهواء في تعاطف الناس مع أم عمار التي فقدت أولادها نتيجة الحصار, والمعارك الدامية ,والتوتير هي مقولة مستوحاة من فينومينولوجيا وترتبط في هذا المجال بالقصدية وتدل على قدرة الذهن على التوجه نحو الموضوع واستهدافه، وهذا ما يعنيه التوتير في حقل سيميائيات الأهواء، إنه استهداف للكتلة الانفعالية والدفع بها إلى التجسيد في حقل التوترات المرئية، وهذه التوترات هي البدايات الأولى التي تقوم عليها أشكال التركيب المسؤولة عن تشكل الأهواء في انفصال عن الاستهواء واستنادا إليها في الوقت ذاته, فنراه يقول: شعرت بعطش شديد وبالذباب يلتصق بجسدي العاري المعرض لتيارات الصيف اللافحة وأنا ممدد كالأسير على حصيرة على باب غرفتي , يئست من عودة التيار الكهربائي في وقته المقرر ضمن القطع المبرمج الذي أعلن عنه في التلفاز بعد عطب محطة توليد الطاقة الكهربائية بصواريخ الأمريكان في عامنا هذا [5],والتوتير هو الممر الضروري لولادة التكييفات (أرغب في، أستطيع،أعرف) وهي الصيغ الأساسية التي تحدد علاقة الذات بعالمها,المصيري وهو الحاصل من التوترات التي يأتي بها الانشطار ألاستهوائي الذي يقود إلى خلق حالة لا توازن تمهد الطريق إلى بروز الدلالة، بمعنى أنه انتقال من حالة إلى أخرى وهو مبدأ مدرج ضمن كل مظاهر الوجود النظير هو مصطلح مستعار من الكيمياء حيث يعين عدد الذرات المضافة إلى تركية الجسم. لكنها تدل في سيميائيات الأهواء على المحددات الانفعالية التي تفرض على الموضوع، وبعبارة أخرى إنها تعني أن القيمة التي تمنح في حالة الهوى إلى الموضوع لا تحدد من خلال بعدها النفعي بل من خلال ظلال دلالية أخرى من طبيعة انفعالية.

المراجع

[1] ينظر سيميائية الأهواء: مريم اجرعام , كاتبة مغربية , موقع ديوان العرب.

[2] مجموعة ربما يطلع الفجر: هيثم محسن الجاسم :51 .

[3] ينظر سيميائية الأهواء .

[4] ربما يطلع الفجر : 16 .

[5] م.ن : 46 .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى