شاهد واستمع .. قراءة تحليليّة لقصائدِ حميد عقبي

صبري يوسف | أديب وتشكيلي سوري مقيم في ستوكهولم

جموحاتٍ تشكيليّةٍ مسرحيّةٍ سينمائيّةٍ

عندما نقرأُ بإمعانٍ قصائدَ المخرجِ والمسرحي والتَّشكيلي حميد عقبي، نستنتجُ أنَّنا أمامَ شاعرٍ: سينمائي ومسرحي وتشكيلي، ونلاحظُ أنّ فضاءاتِ الشّاعرِ تتقاطعُ معَ جموحاتٍ تشكيليّةٍ مسرحيّةٍ سينمائيّةٍ. نقرأُ فيما يلي قصيدةَ ومضة:

يرقصُ موجُ المحيطِ

تلامسُ أقدامُهُ الشَّاطىءَ الباردَ

يعودُ إلى الخلفِ

سينوغرافيا بديعةٌ

تقذفُ الشَّمسُ تلكَ الحمرةَ الممزوجةَ بالأصفرِ عندَ الغروبِ

ثمّةَ عشّاقٌ في انتظارِ اللَّحظةِ

تتشابكُ أصابعُهم

العشّاقُ

وحدَهم مَن يستحقُّون هدايا الرّبيعِ

يكتبُ الشّاعرُ حميد عقبي نصَّهُ الشِّعريَّ كمَنْ يلتقطُ مشاهدَ سينمائيّةً أو ومضاتٍ تشكيليّةً فنّيّةً، ومواقفَ مسرحيّةً بإيقاعِ السِّيناريو الفنّي تارةً وإيقاعِ الحوارِ المسرحيِّ تارةً أخرى، ففي فضائِهِ الشِّعريِّ تموجُ هذهِ العوالمُ من سينما ومسرحٍ وتشكيلٍ وسردٍ وسيناريو، لتأتيَ القصيدةُ مزيجاً من هذهِ الانزياحاتِ في انبعاثِها، لكنَّهُ يمسكُ بخيطِ القصيدةِ الخفيِّ، محاولاً أن يفرُشَ أمامَنا مشاهدَ شاعريّةً رهيفةً حتّى وإن عرَّجَ إلى مشاهدَ سينمائيّةٍ، فهوَ المتخصِّصُ في سينمائيّةِ القصيدةِ الشِّعريّةِ، فقد استفادَ شعريَّاً من تخصُّصِهِ في هذهِ الفنونِ الإبداعيّةِ في رفدِ تجلِّياتِ انبعاثِ القصيدةِ، فلم تأتِ المشاهدُ السّينمائيّةُ في سياقاتِ القصيدةِ، نافرةً، ولا التَّشكيلُ الفنّيُّ، ولا لغةُ السِّيناريو أو المسرحُ والحوارُ، بل جاءتْ هذهِ اللّغةُ متناغمةً وداعمةً لفضاءِ النَّصِ من بعضِ الوجوهِ، لأنَّ اللُّغةَ الَّتي ينسجُ فيها قصائدَهُ، ليّنةٌ وبسيطةٌ وهادئةٌ، وتحوي وهجاً شعريّاً بينَ وشائجِها الفنِّيّةِ، لهذا يمكنُنا أنْ نطلقَ عليهِ من خلالِ بعضِ مقاطعِ شعرِهِ بمختلفِ تنوّعاتِهِ الفنّيّةِ، الشّاعرَ السّينمائيَّ، الشّاعرَ المسرحيَّ، الشّاعرَ السّيناريستَ، الشّاعرَ التّشكيليَّ، الشَّاعرَ المتناغمَ معَ فضاأتِهِ الفنِّيةِ المتنوّعةِ، ولكن عليهِ أن يكونَ حذراً ودقيقاً أثناءَ الولوجِ في هذه الفضاءاتِ الفنّيةِ كي لا يخفُتَ الوهجُ الشّعريُّ!

يكتبُ حميد عقبي شعرَهُ بلغةٍ سهلةٍ بسيطةٍ واضحةٍ، تحملُ بينَ ثناياها مدلولاتٍ ورموزاً وأفكاراً تتقاطعُ معَ جموحاتٍ تشكيليّةٍ مسرحيّةٍ سينمائيّةٍ، نراهُ ينتقلُ من صورةٍ إلى أخرى، كأنّهُ في بعضِ المقاطعِ الشِّعريّةِ، يرسمُ صوراً لمشاهدِ سيناريو لفيلمٍ قصيرٍ أو مشاهدَ مسرحيّةٍ، وأحياناً أخرى يبدو وكأنّهُ يرسمُ ومضةً تشكيليّةً يصوغُها في قالبٍ شعريٍّ، فهو الآتي من رحابِ السِّينما والمسرحِ ووهجِ الألوانِ.

الجملةُ الشّعريّةُ عندَ حميد عقبي مختزلةٌ معبِّرةٌ ومكثَّفةٌ وتحوي صوراً وترميزاتٍ وينتقلُ من فكرةٍ لأخرى بشكلٍّ

مفاجئ وغيرِ متسلسلٍ كأنّهُ ينثرُ أفكارَهُ عبرَ صورٍ متنوّعةٍ ومتعدَّدةٍ، حيثُ يقولُ في قصيدةِ “نهار” ما يلي:

يقتطفُ اللَّيلُ سنابلَنا

يضعُها في شكلِ حزمةٍ

يحملُها

ليوقدَ بعضَها في الضّفّةِ الأخرى

موجةٌ تاهَتْ طريقُها

أقدامُكِ مبلَّلةٌ بالرُّغبةِ

حنَّاءُ كفَّيكِ يميلُ إلى البرتقاليِّ

وفي مقطعٍ آخرَ ينتقلُ من مشهدٍ إلى آخرَ حيثُ يقولُ:

الشَّمسُ حافيةٌ

حاسرةُ الرَّأسِ

تعرجُ النّخلةُ

لم تحبلْ منذُ سنواتٍ

تلعنُ الحربَ

عندما ينتصبُ الظّلُّ بعدَ تردُّدٍ

يصابُ بدوارٍ

لا جدارَ هنا

أينَ الرّجلُ الصَّالحُ

ليقيمَ جدرانَ هذهِ المدنِ؟

وهذا الانتقالُ ينمُّ عن جموحِ خيالِ الشّاعرِ وابتكارِ صورٍ جديدةٍ، فهو يستفيدُ من سينمائيّتِهِ ورسومِهِ وإخراجِهِ.

وفي قصيدةِ “لا تعكسُ المرآةُ وجهي” يكتبُ عقبي نصَّاً يحملُ لبَّ المسرحِ، عبرَ خيطٍ سرديٍّ وحكائيٍّ، تكسوهُ لغةٌ شعريّةٌ، وهذا ليسَ غريباً عليهِ، فهو المخرجُ السِّينمائيُّ والمتخصِّصُ في سينمائيّةِ القصيدةِ الشِّعريّةِ، وهو القادرُ على حبكِ وربطِ كلِّ هذهِ المشاهدِ والتّقنياتِ الفنيّةِ والشِّعريّةِ بسلاسةٍ، ويغدقُ على نصِّهِ أحلامَهُ وانكساراتِه وتشظِّياتِهِ وأشواقَهُ بعفويّةٍ ناجعةٍ، وبحسبِ ما تُملي عليهِ ذاكرتُهُ وهواجسُهُ وتشابكاتُ خيالِهِ.

وفي قصيدةِ “كأسٌ وقضمةٌ من رأس أفيون” حلَّق الشّاعرُ في فضاءٍ سريالي في بعضِ المقاطعِ، وحملَتِ القصيدةُ وهجاً قصصيَّاً بسرديّةٍ شاعريّةٍ محتبكةٍ بالحلمِ والحنينِ والحبِّ وتجلّياتٍ جامحةٍ نحوَ مرافئِ العشقِ والحرّيّةِ، حيثُ يقولُ في مستهلِّ القصيدةِ:

تتدافعُ أرديةُ الظّلمةِ

تتأهَّبُ لحفلةٍ تنكريّةٍ

اللَّيلُ بساقٍ واحدةٍ

يدٌ مبتورةٌ

لقطةٌ من فيلمِ كلبٍ أندلسيٍّ

نملٌ يبحثُ عن غنيمةٍ

يلتهمُ ثديَ فتاةٍ بِكرٍ

تَلبسُ الشَّمسُ طاقيَّتَها

تمازحُني الرِّيحُ

حاملةً طَستاً من الذّكرياتِ

دلواً من الرّغبةِ

وفي قصيدةِ شوق، الّتي أهداها: “إلى الأديب التَّشكيلي صبري يوسف المولع بالجمال”، يعبِّرُ الشّاعرُ عن هواجسِهِ مدندناً على إيقاعٍ رومانسيٍّ وفي إيقاعِهِ حبورٌ عشقيٌّ وشوقٌ إلى دنيا المرأةِ وبهائِها، فيأتي حضورُها عبرَ القصيدةِ شفيفاً، معبّقاً بمذاقِ الحنينِ، يصفُ وهجَ الشَّوقِ والعناقاتِ البهيجةِ، ويرى القصيدةَ حالةَ فرحٍ وسموٍّ حتّى وإن تمحورَتْ حولَ الحزنِ والموتِ، فنراهُ يجمحُ محلِّقاً في فضاءاتِ أخرى ويربطُ بين حالتَي الحبِّ والموتِ، ويطرحُ رؤيةً شاعريّةً جميلةً في كيفيةِ تلقِّيهِ خبرَ الموتِ، حتّى وإن كانَ عن أعزِّ الأعزّاءِ عليهِ وهوَ والدُهُ، مشبِّهاً الموتَ بامرأةٍ جميلةٍ ضمنَ تساؤلٍ في سياقِ بوحِهِ، فلا يتوانى الشّاعرُ أن يكتبَ ما يعتريهِ من هواجسَ وتساؤلاتٍ، ثمَّ يعودُ سائلاً الحبيبةَ فيما إذا ما تزالُ في حالةِ شوقٍ للأيامِ العشقيّةِ الباذخةِ. قصيدةُ شوقٍ تحملُ بين فضاأتِها بهاءَ الشَّوقِ والبوحِ والتّجلّي والكثيرِ من التّساؤلاتِ العميقةِ!

وفي قصيدة: “يكفيك شعراً يا سعدي يوسف”، يتحدَّثُ الشّاعرُ عن جموحِ الخيالِ والأحلامِ، مستخدماً ترميزاتٍ متعدِّدةً للتعبيرِ عمّا يموجُ في انبعاثِهِ الشِّعريِّ، كما يرسمُ فضاءَ الطَّبيعةِ بكلِّ حبورِها وبحورِها وجمالِها بما فيها الفيافي والبوادي الفسيحةِ، ثمَّ يحلِّقُ في عوالمِ الأنبياءِ والقدّيسينَ، والملوكِ، ومعرّجاً نحوَ عوالمِ الحلّاجِ، والبردوني، ومخاطباً سعدي يوسف قائلاً:

يعزفُ الموتُ تعالَ يا سعدي يوسف

يكفيكَ شعراً

قلتَ في الحياةِ والحبِّ والأرضِ

قلتَ أكثرَ ممَّا ينبغي قولَهُ

تعالَ لتزرعَ زنبقةً في فخذِ السَّماءِ

ويكتبُ الشّاعرُ تأمُّلاتِهِ في قصيدةِ: “على الطّاولة”، فنراهُ يفرشُ حميميّاتِهِ على قارعةِ الحياةِ، متنقِّلاً من حالةٍ إلى أخرى برشاقةٍ شعريّةٍ، كأنَّهُ يصوِّرُ لنا حلماً على إيقاعِ فيلمٍ مكتنزٍ بالأسئلةِ والحنينِ والدِّفءِ والحبِّ والتّأمٌّلِ، وينسجُ ما تموجُ بهِ الذّاكرةُ من تداعياتٍ، جامحاً نحوَ عوالمِ الأقزامِ السّبعةِ. قصيدةٌ منبعثةٌ من هواجسِ ذاكرةٍ معفّرةٍ بالأوجاعِ والعشقِ والانكسارِ والحنينِ إلى ندى الصّباحِ، وتساؤلاتٍ عميقةٍ عمقَ البحارِ.

وفي آخرِ قصيدةٍ: “ماذا سيحدثُ أكثر من ذلك”، يترجمُ عقبي شغفَهُ في فضاءِ الألوانِ، كما يتحدّثُ عن الحربِ والحبِّ والجوع وينسجُ صورَهُ الشِّعريّةَ بما يخطرُ على بالِهِ، فجاءَتِ القصيدةُ كأنَّها تشكيلٌ فنِّيٌ، تشتعلُ بشموعِها، وكأنّهُ يريدُ أن يقولَ لنا: الحياةُ جميلةٌ بحبِّها وشموعِها وجمالِها وبهائِها، فلِمَ لا نعيشُ الحياةَ بكلِّ ما لدينا من ألوانٍ رهيفةٍ وطافحةٍ بهِلالاتِ اللّونِ الأزرقِ وأبهى ما في مهجةِ الحياةِ من ألوانٍ؟!

يكتبُ الشَّاعرُ هواجسَهُ وعوالمَهُ وتجلِّياتِهِ الشّعريّةَ بكلِّ عفويّةٍ وحرّيّةٍ، ومزاجيّةٍ عاليةٍ، تاركاً لعوالمِهِ الفنِّيّةِ المتنوِّعةِ أن تدخلُ بطريقةٍ أو بأخرى في فضاءِ القصيدةِ، لهذا يستحسنُ لو ركّزَ الشَّاعرُ على النّصِّ الشِّعريِّ، مخفِّفاً من تداخلاتِ الفنونِ الأخرى، كي تولدَ القصيدةُ في فضائِها الشِّعريِّ المنسابِ، كما يستحسنُ أن ينتقي مفرداتِهِ بدقّةٍ وشاعريّةٍ، ولا يتركُها تندلقُ بكلِّ عفويّتها وعواهنها في بعضِ الأحيانِ، فهناكَ مفردات تتسلَّلُ إلى قصائدِنا، علينا أن نتجنّبَ عبورَها عندما لا تخدمُ الفضاءَ الشّعريَّ، وعندما تكونُ غيرَ شاعريّةٍ وغيرَ موائمةٍ لحبقِ الشِّعرِ وبهاءِ القصيدةِ، كي يأتيَ الشِّعرُ صافياً رهيفاً، بعيداً عن استخدامِ لغةٍ مجانيّةٍ، أو نابيةٍ، الشّاعرُ بغنى عنها، خاصّةً عندما لا تخدمُ فضاءَ القصيدةِ، كي يحافظَ الشّاعرُ على رصانةِ عالمِهِ الشِّعريِّ!

^^^^

ألقيت هذه الورقة النقدية في امسية وندوة خاصة لملتقى الحرف العربي ، مساء الخميس الثالث من نوفمبر الجاري بحضور الشاعرة السعودية فايزة سعيد رئيسة الملتقى. وادارة الناقدة اللبنانية د. درية فرحات، مشاركة النقاد د.عاطف الدرابسة ، د.دورين سعد، د.عبدالرحمن الصعفاني، الشاعر صبري يوسف والشاعر القس جوزيف ايليا واستضافت المخرج السينمائي والفنان اليمني حميد عقبي، تجدون تسجيلا كاملا للامسية على قناة يوتيوب صالون ملتقى الحرف العربي وقناة المنتدى العربي الاوروبي للسينما والمسرح .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى