الصورة الممتدة في ديوان ” قيامة الأسوار ” لـ” عبد الله عيسى “

رائد محمد الحواري | فلسطين

ديوان يتناوله المتلقي على دفعة واحدة، وهذا يشير إلى سلاسة القصائد وتناسقها، فالقارئ يشعر أنه أمام اسلوب شعري جديد، حيث هناك تاريخ وتناص ديني مع ما جرى ويجري على أرض فلسطين، ورغم أن الشاعر يميل إلى الابتعاد عن التسمية المباشرة للمكان، إلا أن عناوين القصائد ومضمونها يوصل الفكرة أهمية المكان للقارئ، فهناك مجموعة مقتطفات وضعها الشاعر في مقدمة الديوان تشير إلى المكان، منها ما اعتمد على الإنجيل: “يا أولاد الأفاعي من أراكم تهربوا من الغضب الآتي”” إلهي إلهي لماذا تركتني” فرغم أن المقتبسات دينية، إلا أنها تشير إلى المسيح الفلسطيني، وبما أن الاقتباس متعلق بمن حرفوا كلام/تعاليم/وصايا الله، فاستدعى ذلك مخاطبهم بقسوة وبما يليق بهم وبأفعالهم، وبما أن الاقتباس الثاني يصف حالة الألم التي تعرض لها المسيح الفلسطيني، فهذا يعطي المتلقي اشارة عما حدث ويحث للفلسطيني.

من هنا يمكننا القول أننا أمام ديوان (قاس) يحمل المعاناة والألم، وهذا متعب على المتلقي، الذي يميل نحو قصائد الفرح والهادئة، فكيف استطاع الشاعر “عبدالله عيسى” أن (يمرر) هذه القسوة وبسلاسة؟، وكيف مزج بين نص/حدث الديني تاريخي وبين جمالية القصيدة، وما هي الأدوات/المؤشرات على أنه يتحدث عن فلسطين وعن الفلسطيني، بما أنه لا يذكر المكان ولا يسميه؟

يمكن الإجابة من خلال القصائد التي جاءت في الديوان، يقول في قصيدة العنوان: “قيامة الأسوار”: “…

أنا الروح التي بعثت في طين موتي يرونني ميتا

ينحني لصورتي جبل الزيتون والبحر إذ تمشي ظلالي عليه” في هذا المقطع نجد إشارة إلى فلسطين من خلال “طين، جبل الزيتون، البحر ف”طين” يشكل القسم الثاني من كلمة فلسطين، والزيتون يعد رمز لها، كما أن بحرها، البحر الفينيقي هو روحها على العالم، من هنا يمكننا القول أن الشاعر تجاوز المباشرة في التسمية واستطاع أن يوصل فكرة المكان للمتلقي وباسلوب أدبي/شعري.

يقول في قصيدة “رؤيا الأيوبي”:

“ومصدقا بمشيئة آلت إليك، أداول الأثلام في الأرض

العميقة بالجروح بما أبيد من هبطوا علينا

من بلاد لا تجاورنا، فما لفؤوسهم أن تستريح” ص85، الصورة الممتدة تجعل القارئ يطيل النظر فيها لمعرفة تفاصيلها، ما فيها، فرغم القسوة التي نجدها في لفظي: “بالجروح، أبيد” إلا أن الصورة الشعرية الكامنة التي نسبت الجروح للفؤوس وليس لمن يحملونها، تخفف على المتلقي شيئا من القسوة، رغم علمه أن من يقوم بفعل الجروح هم جنود الاحتلال، إن كانوا قديما أم حديثا.

ومن أدوات التخفيف التي استخدمها الشاعر صورة “الأثلام في الأرض” والتي قدمها على “بالجروح، أبيد”، بهذه التقديم ل”الأثلام” والتأخير ل”الجراح” يوصل الشاعر حجم الخراب الذي أحدثته “الفؤوس وحامليها (المجهولين)، وأيضا يجعل القارئ يسير مع الصورة حتى اكتمالها.

وفي قصيدة نافذة على بيت القسام” يقول:

“مؤازرين بزحمة التلال بنا

نبكي على جثث تناثرت بكلام الرب في باحة الفردوس

لكننا ننحني للعشب يهبط من سطح على حبل

ليشرب الماء من جرارنا

ونروض الوحوش التي عادت إلى طورنا

العالي لترقص زلفى حول ناره المطمئنة في الأسفار” ص89و90، أيضا نجد الصورة ممتدة وطويل وفيها قسوة، لكن الشاعر يقدم (مسهلات) للقارئ ليعبر المسافة الطويل في المقطع من خلال الصورة الشعرية التي نجدها في: “ليشرب الماء من جرارنا” اللافت في هذا التقديم أن هناك أنسنة/إحياء للماء للذي يشرب، وأيضا (تغريب) للمشروب/الجرار، فالمنطق المجازي يقول أن جرارنا (تشرب)  الماء”، لا “أن يشرب الماء” جرارنا، وهذا ما يستدعي التوقف والتأمل فيما يراد طرحه في القصيدة.

كما نلاحظ أن حركة هبوط العشب من الجبل تتناقض مع حركة “الوحش التي عادت إلى طورنا ” فالأولى غير (عقلية) لأن العشب لا ينتقل في المكان، بل يعلو في مكانه ولا ينزل/”يهبط”، والثانية منطقية لأن الوحوش تتحرك وتنتقل من مكان إلى آخر، لكن، الشاعر يزيل فعل (الصعود) إلى “طورنا” ويستبدله ب”عادت”، لأن فعل الصعود يشير إلى بسالة الفاعل، لكن “عادت” لا تعطي أو تدل على بطولة للفاعل، وهذا ما يجعل المقطع يذم/يدين فعل الوحوش.

ويحدثنا عن الصراع مع المحتلين في قصيدة “فورة الحسيني” :

…والذين جاؤوا من الموج البعيد

يعطلون دقاق ساعات الرحيل

ويرطنون أسماءهم على الشوارع والساحات

ثم يعلقون على سروج مهورنا

لا ينادونني باسمي

ولكنهم عادوا بسحارهم كي يدفنوا سيرتي في غياهب الجب

لا يتلون ذاكرتي

ولكنهم ربوا أفاعي غريبة في مونة العائلة

أحاصرهم بين جهات بزهوة الحضارة كلهم

ويحاصرونني بختم الأساطير التي طبخت دماءنا بفطير المؤمنين

ذوي اللحى السميكة والجدائل المائلة” ص100و101، أحد أشكال الصراع متعلق بالتسمية/الأسماء: “ويرطنون أسماءهم، لا ينادونني باسمي، يدفنوا سيرتي، لا يتلون ذاكرتي” نلاحظ أن الشاعر يستخدم لفظ “يرطنون” الذي يستخدم في اللهجة المحكية، وكأنه به يريد أن يتحدث مع المتلقي بلغة (سهلة)، توصل فكرة الصراع وما فعله المحتل من تشويه في الأسماء والأحداث والتاريخ، وهذا يشير إلى وعيه لما يجري، فأراد إيصال الحدث للقارئ، بهذا الشكل السلس والسهل، وهذا ما يقرب المتلقي من القصيدة.   الصراع مع الاحتلال يأخذ البعد حضاري: “بزهوة الحضارة/بختم الأساطير” الهوة بين “زهو” وبين ختم هائلة، فالأولى لمتعلقة بالشاعر تعطي مدلول التحليق والسمو، والثاني المتعلقة بالاحتلال تعطي مدلول الجمود والتشدد، وهذا يجعل القارئ ينحاز للطرف صاحب الحضارة/يزهو، ويقف ضد من يتمسك “بختم الأساطير”.

ومما سهل إيصال فكرة الصراع القاسية للقارئ استخدام الشاعر للفظ (شعبي) “طبخت” فهذا المصطلح الشعبي الذي يستخدم عادة عندما يكون الفعل مذموم (طبخت) وغير محمود،  يأخذ القارئ  ما جرى على أرض فلسطين وكيف تآمر الانجليز مع الصهاينة و(طبخوا معا طبخت) دولة الاحتلال في فلسطين.

بهذا الاسلوب استطاع الشاعر أن يقدم أحداث/وقائع قاسية بطريقة سهلة وسلسة، تًوصل الفكرة القارئ، لكن بأقل الأضرار الناتجة عن الفكرة/المضمون.

الديوان من منشورات دار الزهراء للنشر والتوزيع، بيت الشعر، رام الله، فلسطين، الطبعة الأولى 2001

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى