تنبّهوا.. الطعن في صحيح البخاري والكتب الصحاح.. طعن في الإسلام
محمد أسامة | الولايات المتحدة الأمريكية
لا يجهل أحد من المسلمين اليوم أهميَّة السنة النبوية في حياة المسلم، ولا قدر منزلتها لدى التقي المؤمن، فهي المصدر الثاني للأمَّة بعد القرآن الكريم الذي جاء متمَّما لأحكامة، موضحا لآياته، شارحا لكل تفصيلاته وبياناته، وإن كان القرآن الكريم موجزًا فقد جاءت سنة النبي أكثر تفصيلًا وشرحًا، وأوسع نطاقًا وموضوعًا، فقد أورد القرآن ذكر الصلاة وجاء في السنة بيان أحكامها، وتفاصيل فروضها وأوقاتها، وأورد القرآن ذكر الزكاة، ومن ثم شرحت السنة أركانها وبنودها، وأوضحت تفاصيل أحكامها، وقد ذكر القرآن الصيام، ثم جاءت السنة موضحة أحكامه، مبينة صفته وشروطه وأقسامه ومبطلاته، وهكذا في الحج الذي ذكره القرآن بإيجاز، ثم جاء في السنة ما جاء من أحكام الطواف والسعي وسائر المناسك، لذا كانت السنة البوابة المفصلة التي تشرح ما جاء به القرآن، وتأتي عليه بكل دليل وبرهان، في سياق محكم، ونسيج قوي مرتَّب.
وقد عني السلف بالسنة النبوية وحفظها عقب وفاة النبي ﷺ واكتفوا أوَّلا بروايتها وتنقلها، وترددوا في كتابتها وتدوينها، حتى لا ينشغلوا بتفصيلاتها عن صميم القرآن الكريم، حتى إذا مضى زمن قصير، وكثرت الفتن وتعددت الأحزاب، وتصارعت الفرق والطوائف، وبدأ بعض أهل البغي والتدليس في الكذب على رسول الله بقصد تعضيد مناهجهم الباطلة، وتشويه سنة النبي بأكاذيبهم الفاجرة، انتبه لذلك عدد من أئمة المسلمين وشيوخهم، ونخبة من علمائهم ومحدثيهم، فانبروا على الفور في تدوين السيرة النبوية وجمع أحاديثها، وكتابة وحفظ كل آثارها، بعد أقل من قرن على وفاة النبي ﷺ وكان لا يزال عدد من صحابته على قيد الحياة، وكان التابعون لا يزالون يملؤن الدنيا بعلمهم، ويفقِّهون الناس بفقههم، وأمر الخليفة عمر بن عبد العزيز عامله على المدينة أبا بكر بن حزم بجمع أحاديث النبي ﷺ وظهر عدد من الفقهاء الذين جمعوا ما جمعوا من أحاديث النبي ﷺ من أبرزهم مَعمر بن راشد (ت153هـ) ومالك بن أنس (ت179هـ) في كتابه المعروف بالموطأ ثم جاء الإمام أحمد بن حنبل الشيباني فجمع ما انتهى إليه من أحاديث النبي في كتاب جامع وهو المسند.
وبعد ان انتهت عمليه جمع السنة النبوية جاء الدور على التدقيق والتنقيح فظهر الإمام محمد بن إسماعيل البخاري الذي بذل جهده، وأعمل سعيه، من أجل جمع الأحاديث النبوية، والتأكد من صحة الأخبار المروية، فطاف حول البلاد، وانتقل بين الأنحاء، وزار خراسان والكوفة والبصرة والشام ومصر والحجاز، والتقى برواة الأحاديث هنا وهناك، ولكنه اشترط الصحة في ما يرد عليه من أخبار، وما يصل إليه من أحاديث، فدقَّق في السَّند، وتتبَّع سير الرواة، واستبعد من صحيحه كل الأخبار التي في سندها ضعف، أو تبيَّن في روايتها شك، وظلَّ على جهده العظيم هذا ستة عشر عامًا حتى جمع ما عُرف بـ”صحيح البخاري” الذي أجمعت الأمة على أنه أصح الكتب بعد كتاب الله، وشهدت بصحة وثبوت كل ما ورد فيه من أقوال رسول الله. وكذلك فعل مثله معاصره الإمام مسلم بن الحجاج النيسابوري فيما عرف بـ”صحيح مسلم” وبجوار الصحيحين كتب أخرى تأتي في المرتبة الثانية من حيث الأهمية والصحة وهي سنن جامع الترمذي وسنن أبي داود والنسائي وابن ماجة حيث ضمت بعض الأخبار الضعيفة مع التنبيه عليها، والإشارة إلى ضعفها، فكان جهدًا عظيمًا، وعملًا ثمينًا، قام به الأئمة المحدثون فحفظوا به سنة النبي ﷺ بإحسان، وحالوا بينها وبين وقوعها في الضياع والنسيان.
وبالطبع لم تسلم الكتب الصحاح وعلى رأسها صحيح البخاري من هجمات العلمانيين اللادينيين الذين انبروا يهاجمون صحيح البخاري ويطعنون فيه، ويشككون في أحاديثه، وهو هجوم لم يكن هدفه النيل فقط من صحيح البخاري كما يدعون، ولم تكن غايته التنوير والتنبيه كما يزعمون، وإنما كان هدفه الطعن في السنة النبوية والتشكيك فيها، وزرع الريبة في كل مروياتها، وبالتالي يتم هدم ركن أصيل من أركان الإسلام، والعثور على ذريعة قوية يزرعون بها كل هذا الزور والبهتان، فإذا تم الطعن في منابع السنة النبوية ومصادرها، والتشكيك في كتبها وأساليب جمع أحاديثها، سهل بعدها التشكيك والطعن في الصلاة والصيام والحج وأحكام الحدود والمواريث التي لم ترد تفاصيلها في القرآن، وإنما جاءت السنة بكل تفاصيل أحكامها بإتقان، وسيجد بعدها العلمانيون فرصة ثمينة لتكذيب بعض الأحكام والقوانين الشرعية التي لا توافق هواهم، ولا تتناسب مع دنيء أغراضهم، فيبطلون بعض فرائض الدين كالمواريث والحجاب، والحدود والعبادات، بذريعة أنها جاءت في كتب غير موثوقة، ومصادر غير معروفة، ويثيرون فيها عددًا من الشبهات، ويروِّجون بعضًا من الأكاذيب، كمثل قولهم: من أين أتى البخاري بهذه الأحاديث وقد مضى على وفاة النبي قرنان من الزمان؟ كيف استطاع البخاري أن ينظر في تنقيح ستمئة ألف حديث في ستة عشر عاما فقط وهو ما يستحيل وفق الحسابات الرياضية؟ هناك أحاديث بلغ عدد الرواة تسعة أشخاص ممَّا يعطي الفرصة للكذب والتدليس والنسيان؟ كيف وثق البخاري في عدالة الرواة. ألا يحتمل الخطأ؟ ثم يستدلون ببعض النقد الذي وجه للبخاري وقيام بعض العلماء يتضعيف بعض الأحاديث فيه مما يدل على احتمال خطأ البخاري، والحق أن هناك من أخذ بعض المآخذ على صحيح البخاري لكنها ليست بالشكل المبالغ فيه الذي يحاولون الترويج له، وكلها شبهات يردِّدها أدعياء التنوير من اللادينيين، ويروِّجها من يروِّجها من أذناب العلمانيين، وينتهزون انخفاض نسبة الوعي بين عدد من المسلمين، فسرعان ما تفعل تلك الشبهات مفعولها، وتعمل في النفوس أثرها، بسبب ضعف الثقافة الإسلامية لدى قطاع كبير من العامة فيتأثرون بأكاذيبهم، وتعمل فيهم أباطيلهم، وهي شبهات تنمُّ عن جهل فادح، وحقد دفين، وعدم معرفة هؤلاء بأدنى درجات علم الأحاديث، ولا كيف جمعت تلك المرويَّات.
أما ادعاؤهم بطول المدة بين النبي ﷺ والبخاري فدليل على جهل فادح، وإغفال متعمَّد، ذاك أن أحاديث النبي ﷺ كانت قد دُوِّنت في الأصل قبل البخاري وحُفظت، ولما جاء البخاري ألفى الأحاديث النبوية وقد جمعت، فما فعل إلا أنه قام بالتنقيح والتدقيق، والضبط والتصنيف، واما ادعاؤهم باستحالة النظر في ستمئة ألف حديث في ستة عشر عاما وفق الحسابات الرياضية فجهل حتى بأدنى قواعد علم الحديث، وعدم دراية بطبيعة عمل البخاري، إذ أن العبرة هنا في متون الحديث وليس في عدد الأحاديث، فقد يشترك عدد من الأحاديث في متن واحد فيسهل التأكد منها وقد كان عدد الرواة في صحيح البخاري 1525
وأما ادعاءهم أن السند أحيانا قد يصل إلى تسع رواة بين النبي ﷺ والبخاري وهو ما يزيد من فرص الخطأ والسهو فالرد عليه أن طول السند ليس معيارًا زمنيًّا على الإطلاق، لأنه قد يروي الصحابي عن الصحابي والتابعي عن التابعي فيطول السند ولا تطول المدة وهناك في صحيح البخاري أحاديث نبوية ثلاثية السند مما يبطل هذا الزعم، وأما الطعن في عدالة الرواة فممَّا لا يعرفه هؤلاء أنه رواة الأحاديث أنَّه قد تم من قبل علماء الحديث دراسة سيرتهم، وتعقب ظروفهم وحياتهم، حتى تمَّ الوثوق في صدقهم وأمانتهم، وجمع ذلك في علم شهير اسمه علم الرجال.
وأما استنادهم على أن هناك من انتقد صحيح البخاري وضعف بعض الأحاديث فيه فالأمر فيه مبالغة واضحة، والاستدراك الذي استدركه البعض على صحيح البخاري لم يبلغ تلك الدرجة، وغاية القول فيه من قبل هؤلاء الذين استدركوا على صحيح البخاري أنهم قد زعموا أن البخاري ومسلم قد أخلَّا فقط ببعض الشروط التي اشتراطاها على نفسيهما في جمع الأحاديث وهذا وإن قلَّل من درجة صحَّة الحديث وفق الشروط التي إلتزماها فإنه لا ينفي سلامتها مطلقًا وقد بلغ عدد الأحاديث التي استدركوا عليها على صحيح البخاري حوالى مئتي حديث من أصل بضعة آلاف وهؤلاء هم قلة والجمهور مع رأي البخاري أي أن الأمر كله مجرد خلاف تقني في طريقة وأسلوب وجمع الأحاديث من حيث الشروط والقواعد ولكنَّها أبدًا لا ترقى إلى ما يستهدفه هؤلاء من رد أحاديث البخاري كلها، والطعن في صحة ما جاء منها، ولا تلغي صحة وسلامة الحديث الذي رواه، وأما ادعاء البعض أن البخاري ومسلم ليسا محل إجماع بين عموم الأمة فجهل محض فقد أجمعت الأمة على عدالتهما ونزاهتهما، وما اجتمعت الأمة عليه، لا سبيل للطعن فيه.
وأخيرا فإننا علينا أن نطمئن إلى صحة ما روي عن النبي ﷺ طالما كان سنده صحيحا، وإلى سلامة صحيحي البخاري ومسلم، وعدالة بقية كتب الصحاح، وعدم الاستماع إلى هؤلاء الذين استندوا إلى براهين غير واضحة، وأسسٍ غير علمية، منتهزين جهل عموم الناس بها، وعلينا الانتباه إن الهدف الرئيسي من إشاعة تلك الشبهات هو الطعن في الإسلام في حد ذاته، والنيل من أركانه وبنوده، وينبغي علينا عدم الانجراف خلف تلك الأراجيف، أو الانشغال بتلك الشبهات، من غير أن يكون لنا وعي مسبق، وعلم ثابت، وجدية للبحث للرد على كل تلك المزاعم.