حوار مع منكري الإسراء والمعراج قديما وحديثا (٢)
رضا راشد | الأزهر الشريف
قلت في المقالة السابقة: إن كفار قريش ما شككوا في الإسراء من باب الجهل؛ فإن جيلا تحداه ربنا بالقرآن -على ما يستلزمه التحدي من قدرة فائقة في البيان-، وطولب بتبين الفرق بين الكلام المعجز وغيره ليتيقنوا بهذا التبين أنه من عند الله= ما كان ليخفى عليه الفرق بين “سرى” و”أسرى به” وهو الفرق الذي لا يخفى على طالب في المرحلة الإعدادية لو أنه أتقن فهم باب تعدي الفعل ولزومه في النحو، ولكن التشكيك إنما نبع من العصبية والعناد، تلكم العصبية التي هي غشاوة سوداء تلف حول العيون لتمنعها من رؤية الحق، وذلكم العناد الذي يتكسر على صخرته قوة أي دليل، بدليل أنهم ما تزحزحوا عن تكذيبهم مع كل ما حاءهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الآيات البينات.
هذا عن منكري الإسراء قديما، فماذا عن منكري الإسراء والمعراج حديثا: ما شبهاتهم ؟ ومن أي موقع يتشككون وينكرون: أمن موقع الإسلام؟ أم من موقع النفاق والإلحاد غير المعلن مبالغة في المخادعة ؟
تعالوا بنا إلى حوار نحاول فيه أن يكون هادئا نبتدى فيه بهذا السؤال:من أي موقع تنكر الإسراء أو المعراج: أانت مسلم؟ أو على غير ملة الإسلام؛إذ الحوار يختلف باختلاف عقيدة من نتكلم معه.
(^) فإن ادعى الإسلام سألناه: من أي جهة كان الإنكار:أمن جهة العقل أم من جهة النقل؟
فإن قال من جهة العقل-ولا يسعه ذلك – قلنا: هذا يتنافى مع مقتضيات إسلامك التي منها الاعتقاد الجازم بأن الله على كل شيء قدير، ومنها التنحية الكاملة للعقل عن اقتحام ميدان المعجزات الإلهية ومحاكمتها لمقاييسه. فلا يكون مسلما من لا يؤمن بذلك، ولا يليق بمسلم أن يحكم عقله فيما جاءه عن رسوله صلى الله عليه وسلم ؛ فإن ” كل من سار وراء عقله ووزن كل ما جاء عن الرسول بميزان فكره، فقلما يؤمن إيمانا صحيحا…وكل من لم يصدق إلا بما وصل إليه عقله وبلغته حدود علمه فليس مؤمنا بالرسول على الحقيقة وإنما هو مؤمن بالعقل لا بالرسول. وما جاءت الرسل إلا لتخبرنا عما وراء الطبيعة مما لم تصل إليه العقول التي لا استمد معلوماتها إلا من المحسوسات وما تنتزعه من المعقولات الثابتة مما هو راجع إليها ومتوقف عليها.
[انتهي باختصار من مقال للشيخ يوسف الدجوى رحمه الله نشرته مجلة الأزهر عدد شهر رجب بعنوان الإسراء والمعراج ص ١٣٢٢] .
إنك -مسلما – قد صدقت أن إبراهيم الخليل عليه السلام قد ألقي في النار ولم يحترق، وأن موسى عليه السلام ألقى عصاه فإذا هي حية تسعى تلقف ما يأفكون، وأنه عليه السلام ضرب البحر بعصاه فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم، وأن عيسى عليه السلام كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، وأن الله أنزل عليه مائدة من السماء ..آمنْتَ بهذا كله وصدقتَه مع تناقضه مع العقل؛ لثبوت وقوعها عندك بطريق يقيني ..فلِمَ تستبعد وقوع معجزتي الإسراء والمعراج لنبينا صلى الله عليه وسلم؟!
إذن فقد سُدت أمامك-أيها المسلم أبواب الإنكار من جهة العقل- فلم يعد لك إليه سبيل. وإنما الذي يمكن أن يكون سبيلك للإنكار والتشكيك هو جهة النقل؛ أي من حيث درجة ثبوت الروايات ..فهل يسعك الإنكار من هذه الجهة أيضا ؟ لا أظن، بل إني لأرى أن السبيل للإنكار من هذه الجهة أيضا لهو أضيق من سم الخياط؛ إذ الإسراء ثابت بالقرآن ثبوتا صريحا لا يحتمل تأويلا ولا ليا لأعناق النصوص؛ ولهذا كان منكر الإسراء مكذبا بالقرآن، وهذا كفر صريح نعوذ بالله منه.وأما المعراج فلَمَّا لم يتحدث القرآن عنه صراحة كان منكره فاسقا ..وعلى كل فالإسراء والمعراج -مجملين- ثابتان بالقرآن وإن تفاوت الدليلان وضوحا وخفاء، أما عن التفصيل فقد تكفلت به السنة النبوية في أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى وهو صحيح البخاري ..فلئن سلمنا جدلا أن القرآن لم يتحدث عن الإسراء والمعراج (صراحة أو ضمنا ) فأيضا لا يسعك الإنكار إلا أن تركب متن الشطط فيسول لك عقلك سمادير(والسمادير: ما يتراءى من خيالات وأوهام للسكران) وأوهاما، بظنك أنك وحدك على محجة الصواب وأن كل الأمة خطأ.وهذا ما لا تملك أداته.
إن إنكارك المعراج من جهة النقل لا يتأتى لك -على فرض عدم حديث القرآن عنه – إلا من وجه واحد؛ هو أن ترتدي رداء علماء الحديث وتحصل علوم جهابذة الجرح والتعديل فتستقصي روايات الإسراء والمعراج:(رواية رواية) وتتبع سلسلة سند كل رواية بالبحث والتمحيص :(راويا راويا) ؛ لتتبين ميزان كل رواية من الصحة أو الضعف فإذا ما خلصت إلى ضعفها عقبت بمناقشة من صحح ما ضعفته أنت مبينا الخخل الذي وقعوا فيه والغفلة التي اعترتهم حتى صححوا الضعيف ..ولست بالفاعل ذلك لأن علمك بأسماء كتب هذا العلم وعلمائه فضلا عن قواعده ومقاييسه وأصوله لا يقارب علم حلاق القرية بالطب. فإنك إذا كنت العاجز عن قراءة اسم كتاب ” أُسْد الغابة ” فقرأتها : “أَسَد الغابة” فلأنت الأعجز عما طالبتك به سبيلا وحيدا لإنكار المعراج بناء على أنك مسلم وتأسيسا على افتراض أن القرآن الكريم لم يتحدث عن المعراج. ولتعلم أن مطالبتنا لك بذلك لا يعني أننا نظن بك القدرة على شيء من هذا؟ لا، بل ولا عشر معشاره، ولكنه الإلزام وإقامة الحجج وقطع المعاذير تبيينا للحق وسبلا للمناظرة
الآن -أيها المسلم المنكر للإسراء أو المعراج- قد سدت أمامكم أبواب الإنكار من كل جهة وانقطعت بكم سبل التشكيك فيهما من كل جانب سواء أكان التشكيك من جهة العقل أم من جهة النقل ..
فأين تذهبون؟!
وإلى أين المفر؟
كلا لا وزر .
إلى الحقيقة -التي آمنت بها الأمة على مدى تاريخها الطويل- حينئذ المستقر.
يتبع إن شاء الله