المبنى والمعنى.. قراءة في قصيدة: عُمان النور للشاعر أحمد العبري

د.  جمال فودة | عضو الاتحاد العالمي للغة العربية – كاتب وناقد مصريّ

يقول الشاعر العُماني أحمد بن هلال العبري في قصيدته (عُمان النور)

وقفتُ على أرضٍ بها النفسُ سبحتْ

وبين سمواتٍ بها الروحُ حلّقتْ

عمانُ بقلبي خيرُ نبضٍ رويته

بحبٍ له الأنهارُ بالنورِ قد جرتْ

هي الروحُ والأرواحُ تهفو لنبضِها

لها الأذنُ أصغتْ بل بها العين أبصرتْ

فديتُ رُباها إذ رُباها قصيدةٌ

من العشقِ في جناتِ قلبي علقتْ

رعاكِ إلهُ الكونِ في كلِ ساعةٍ

على أيكِها كلُ القلوبِ قد التقتْ

فكوني مهادَ العاشقين لنرتقي

وطوبى لنفسٍ في هواكِ قد ارتقتْ

إن النص الشعري لا يستمد دلالته من العدم، وإنما تكمن جمالياته في تحولات الأداء اللغوي الذى يجسد حضور اللغة من خلال العلاقات التي تتشابك في دائرة النص بين المبنى والمعنى ، وحتى يتمكن الشاعر من استكشاف  المعاني الكامنة  في بنية الكلمات  ، لابد له من خرق معيارية اللغة وتجاوز ثباتها  إلى مجال أكثر انفتاحاً ، ولعل تعدد الإمكانات في اللغة هو السبب في وجود الاختيار لأنه من غير المعقول أن تُخرج الإمكانات جميعها دفعة نفسية واحدة إلى حيز الاستعمال، كما أنه من غير الممكن أن تعبر بنية لغوية عما تؤديه غيرها. 

واستغلال الشاعر (أحمد العبري) لما يتيحه نظام اللغة من إمكانيات هيأ له تخطى سكونية البناء النحوي، وتجاوز النمط التقليدي لإبراز المعطى الفني، والذي تختلف خواصه الفنية باختلاف القالب المصوغ فيه ، ومن نماذج إبداع الشاعر في التعامل مع البنية اللغوية وتطويعها للدلالة النفسية / الفنية نرصد ملامح (التقديم والتأخير) في قصيدته (عمان النور)؛ لما له من أهمية بالغة في إعادة تركيب اللغة ونقلها من المستوى العادي إلى المستوى الفني من خلال تبادل المواقع بين عناصر التركيب المتعددة حيث يقوم ” بإعادة ترتيب مواقع الأدلة حسب قوانين لا يقبلها النثر.

وباستقراء شعر ” أحمد العبري ” وجدنا أن التقديم والتأخير يمثل ظاهرة أسلوبية، استغلها الشاعر لإثراء دلالته وتعميقها، تبعاً لمقتضيات معنوية هي أساس هذه الظاهرة، وأخرى ـ لا شك ـ صوتية 0

فالأهداف المعنوية ذات مقاصد تثرى فاعلية اللفظة، وتشكل بنية تعبيرية مميزة، مما يضاعف إحساس المتلقيبها، فيزداد إبداع الدلالة الموقعية للفظة المختارة، ويرقى بأبعادها الدلالية إلى أعلى مستوى.

وظهر تقديم الجار والمجرور بشكل لافت في القصيدة، ويعد هذا النمط أكثر أنماط التقديم والتأخير في شعر “أحمد العبري”، وقد ورد على هيئات متنوعة، والحقيقة أن الجار والمجرورمن المعطيات الأسلوبية التي تلعب دوراً مهماً في تكوين الجمل في اللغة العربية، ذلك لما يتمتع به من حرية الحركة داخل الجملة، والشاعر المبدع هو الذي يستغل هذه الحرية ليقدم تراكيب خاصة متميزة تباين ما تعارفت عليه الأوساط الشعرية. ومن أشكال تقديم ” الجار والمجرور”التقديم على الفعل، في قوله:

وقفتُ على أرضٍ بها النفسُ سبحتْ

وبين سمواتٍ بها الروحُ حلّقتْ

عمانُ بقلبي خيرُ نبضٍ رويته

بحبٍ له الأنهارُ بالنورِ قد جرتْ

لقد قام الشاعر باستغلال التقديم والتأخير للجار والمجرور، ووضعهما في أماكن غير مألوفة وبحرية مطلقة، وبهذا التحرر في الحركة والتباين مع المألوف ظهرت قيمتهما التركيبية والدلالية.

وبتأمل النموذج السابق نجد كيف يسهم موقع اللفظ في بيان قيمة التقديم الفنية، لأن تصدير الشاعر النص بالمفردة المختارة ـ لا شك ـ يحمل شحنة يتلقاها المتلقي،وتمثل مرحلة من مراحل الاتصال بينه وبين المعنى، فإذا ما تكامل بنيان التركيب بتضام هذا اللفظ مع تاليه يأخذ المعنى في التكامل وتتوثق علاقاته.

فلأن ” أرض الوطن وسماؤه ” هما أهم عنصرين   في تجربة الشاعر النفسية والشعرية على السواء فقد سلبهما موقعهما باعتبار (النفس) تابعة (للأرض / الوطن)، و(الروح)متعلقة بـ (سمائه)، والحب حرك المياه الراكدة في الأعماق فجرت (له) الأنهار ،كيف لا وهو حب الوطن؟ الذي يغمر القلب نوراً.

 والشاعر بتقديم الجار والمجرور أثار وجدان المتلقي نحو ما قدمه من ناحية، ثم جاء تأخير الفاعل من ناحية أخرى ليؤكد على تركيز البنية وإثراء دلالتها.

 ومن مظاهر التقديم والتأخير الشائعة في شعر “أحمد العبري ” تقديم الجار والمجرور على الفاعل، ومن ذلك قوله:

لها الأذنُ أصغتْ

بل بها العين أبصرتْ

على أيكِها

كلُ القلوبِ قد التقتْ

لقد قدم الشاعر الجار والمجرور ” لها ” على الفاعل ” الآذان “، وكذلك قدم ” بها” على ” العين”، وقدم (علىأيكها) على (كل)،وفي الأولى جاء التقديم دالاً على (السمع)،وفي الثانية جاء التقديم دالاً على (البصر)،وفي الثالثة جاء التقديم دالاً على (الإحساس بالحب والعشق)؛فالآذان هي عضو السمع، والعين هي عضو البصر والقلب هو عضو الشوق، ومن ثم فإنه يؤكد بكل حواسه على حب بلاده.

 ولو قمنا بتحويل الجمل السابقة إلى كلام نثرى من خلال إعادة ترتيب الأدلة حسب قوانين اللغة العادية، فقلنا ـ مثلاً ـ: أصغتْ الأذن لها، أبصرت العين بهاالتقت كلُ القلوبِ على أيكها

لوجدنا أن النص بهذا الصنيعـ بترتيب الأدلة حسب القواعد النحوية ـ يفقد صنعته الشعرية ومزاياه الإبداعية.

لقد أدى التقديم إلى إحكام التركيب بربط بدايته بنهايته عن طريق وضع المكملات داخل الجملة، وإنهاء الجملة بمكون أساسي فيها ” الفعل “.

إن تقديم الشاعر الجار والمجرور (على الفعل والفاعل) يدل ـ في عمومه ـ على أن اهتمام الشاعر موجه إلى خلفيات الحدث أكثر منه إلى الحدث نفسه ليس معنى هذا أن تقديم الجار والمجرور وحده هو الذي يصنع هذه الدلالة، لكنه بلا شك يسهم إسهاماً كبيراً في إظهارها؛ ذلك أن الدلالة في الشعر تتكون من الإيحاءات والأنساق، مما يفوق كثيراً الدلالة الموضعية والمعجمية لها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى