السفارة والعمارة.. مصالحة يأباها التاريخ والقدر؟!
محمد عبد العظيم العجمي | كاتب مصري
هل بات عربي لم يضحك ملء فيه، حين شاهد تلك الرواية الساخرة ممثلة (السفارة في العمارة) تأليف الكاتب: يوسف معاطي؟! حيث أيقن كأنها جاءت ممزوجة بهمومه، ناطقة بلسان حاله ومقاله؛ وعلى حين فترة من الصراع والنفير، تعقبه دعوات التطبيع.. جاءت لترفض أن تكون السفارة في العمارة؛ حين تناولها الكاتب والممثل بهذه السخرية اللاذعة التي لا تخلو من طرافة وتقريع وتثريب.. جاء هذا المواطن (المصري العربي) يمثل هذا الرفض الكامن في خلجات النفوس، وقد بدا وهو الشريف الصابر على متغيرات الحياة وذلها (شريف صبري)، والذي تدفعه السطلة بكل أدواتها أن يطبع فكره وسلوكه حتى يتناغم مع هذا الكيان الغاصب اللقيط، المتجمع من أشتات الأرض وأدناسها.. ثم يظن السلطة وسدنتها ـ واهمين ـ بما ملكوا من آلة إعلامية مؤدلجة ونخبة مدجنة أن قد يعيدوا صياغة وعي هذا المواطن البسيط فإذا به يخادعهم جميعهم بسذاجته..
وبقدر ما يقدمون له (في شقته) المجاورة للسفارة، مما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، وما يستميل وتستطيب أفواه البسطاء وبطونهم وحتى (كيفهم)، فإذا العفوية المصرية تظهر حين تأخذهم الغمرة، ويغيب العقل والفكرة وتبقى السكرة، فيستدعي مخزونه النفسي التاريخي، ويغني في عفوية:
“أنا بكره اسرائيل .. وبقولها لو اتسأل!!
إنشاالله أموت قتيل .. أو اخش المعتقل”..
فكيف بالعقل الواعي حين يوضع وجها لوجه أمام نماذج من هذا الكيان المنبوذ في جزء من الأرض العربية؟!
يتخبط هذا المواطن الساذج بين أكثر من تيار استقطابي، ونعرات حزبية، ورافد فكرية لا عهد له بها(الليبرالية والشيوعية والبورجوازية، والتيارات المتطرفة….) تفرض نفسها عليه بحكم جواره للسفارة، ثم لا ياوي في ذلك كله إلا إلى بساطته الموروثة، التي وإن ظن البعض أنها سطحية إلا أنها في حال الاختبار والأزمة تخرج أجمل ما عندها، وتكون أشد من الأسد في عرينها حين يٌقتَرب من موروثها الديني أو الحضاري والتاريخي.!!
هذا المواطن الذي يطوف في شوارع بلاده العربية عمرا (الخليج)، ليستقر أخيرا في حضن وطنه الأم (مصر)، كما هي للعرب دوما، فيفاجأ بهذا الكيان المفترى(اسرائيل) الممثلة في (السفارة) قد خصص لها تمثيلا في الوطن العربي (مصر) وهي (العمارة)، مقدمة لهذا التطبيع المزعوم الذي يأباه الجميع، البسطاء منهم والشرفاء على حد سواء.. تستعفّ نفوسهم حتى التجار منهم يستنكفوا أن يسكنوا أو يشتروا الشقة التي بجوار السفارة ـ ولو(ببلاش) ــ كما يقول الحج سيد، والفطاطري الذي يأبى أيضا أن يبيع الفطير لجيران السفارة.. وكأن الكاتب رغم ما طرأ من التغيير السياسي يقول باللهجة المصرية: (اللي في القلب في القلب).. هذا الرفض العفوي ببساطته، واللامنتمي لتيار سياسي أو فكرة دينية أو عقيدة فلسفية .. فقط من المواطن الذي لا يتكئ إلا على بساطته وعفويته .
ينتقل المشهد ليظهر المواطن المصري وجها لوجه أمام السفير الاسرائيلي في الأسانسير، فلا يتمالك نفسه حين يتعرف هويته، متحولا لهذه الحالة من التجهم (المضحك) الممزوج بالغضبية والازدراء، معرضا بكليته عنه رغم تودد هذا السفير إليه ببسط الوجه وعبارات الثناء والشكر على الجوار الهادئ؛ لكن الجينات المتوارثة وكأنها تتأبى على صاحبها، وتأبى إلا تذكر هذا الماضي الأليم الذي صبغت به هذه الأيدي الآثمة الباغية صفحات النفوس والدروب، والأرض العربية الطيبة؛ وإن كانت بعض الأجيال لم تشهد جرائم هذا العدو تاريخا أو واقعا، فإن أرحام الأمهات وأثدائها، وأحضان الآباء، وخواطر الذاكرة، وحديث الأرض والسماء، وحتى ذرات الغبار المتناثرة في آفاق الأرض العربية، كلها تسر بهذا الصنيع في أذن كل مولود وخاطره، وترسخ لهذه الكراهية مهما تغير وجه الزمان ومعطيات الحياة .. ولا تزال فلسطين شاهدة حاضرة حتى يأتي وعد الحق.
إن التحول النفسي لهو أشد وطئا وأصعب جهدا من هذا التحول الجسدي، فمن يستطيع أن ينسى ـــ لو أراد ـــ قرى 48 المدمرة منها والمهجرة؟ ومدائن 67 المحتلة، وبحر البقر، والاسماعيلية والسويس، وصبرا وشاتيلا، و73، وجنوب لبنان، وسيناء والجولان والضفة وغزة.. ومن ينسى حيفا ويافا واللد والخليل.. من ينسى الانتفاضات العربية أو يتناسى ؟!!
يأتي رأس المال في المشهد قبل الأخير ممثلا في: (ولاء غانم )، ليقول أن الأغنياء ــ غالبا ـــ ما يكون ولاؤهم للغنم والمنفعة والثراء المتنامي، بعيدا عن فكرة البسطاء المستمسكين بالأوطان، وربما نلمس شيئا من هذا في واقعنا، أن الأموال لا تعرف الأوطان بل تعرف النماء والثراء.. يراود هذا الولاء الغانم المواطن أن يغير من توجهاته وولاءاته ويولي وجهه شطر هذا الكيان الذي بات يملك من أدوات العلم والمنفعة في المجال الزراعي خاصة ما يزيد به إنتاجية البلاد من الثروة الزراعية ــ وقد حدث هذا على مستوى بعض الأقطار إذ استعانت بالخبرة اليهودية في شتى مجالاتهاــ وأن زمن الحروب والعداوات قد ولى، متناسيا أو متغافلا بالطبع الوطن الفلسطيني الغصيب، والشعب الفلسطيني المهجر، والمدن العربية المحتلة، زاعما أن الواقع صار يفرض نفسه؛ وأن لزاما أن نظهر بعض الحكمة والفطنة في التغافل والتعامل!!
فيثور مرة أخرى هذا المواطن المستعصم، على هذا الطرح المتخاذل آويا إلى طبيعته وطينته التي تأبى إلا أن تبغض هذا الكيان وترفضه وترفض كل ما يتعلق به، ثم يقول معتزا بتاريخه ووطنيته:” بقالنا سبع آلاف سنة بنزرع أرضنا وبنعلم الناس الزراعة، بعدين ييجوا دول يعلمونا إزاي نزرعها؟!!”.
ولا يرعوي العدو أبدا عن نمطية الحيل الخبيثة التي يحيكها لكل المنصفين والشرفاء في العالم، والمتصدرين لمشهد القضية العربية الفلسطينية والحق العربي التاريخي، يقع المواطن شريف في بعض هذه الحيل، ويٌساوَم على التنازل عن القضية التي ألقت بها الأقدار في طريقه دونما عزم أو تخطيط أو توجه سياسي أو فكري.. قضية السفارة، والتي تصدر فيها مشهد البطولة دون أن يرى في نفسه أدنى مقومات لذلك.. لكنه يفجع آخرا بالمشهد الذي ينفجر به ثائرا على كل ألوان الحياة النمطية البسيطة التي ألفها، ألا وهو مشهد الطفل الفلسطيني (زياد)، الذي تغتاله رصاصات الغدر مستمرأة في البغي، سافرة عن كل وجوه الحقد والحسد على هذه الأمة التي اقتنصت منها قيادة الدهر، وعبق الرسالات التارخي، ورمت بها قدما في ذيل الأمم بعد أن كانت بيضة مستقبلي الرسالات وحملتها..
هذا الحسد التاريخي الذي أضرم نار الغضب الكامن تحت رماد النفوس الصامتة قهرا، المغلوبة على أمرها قسرا، وإن أخمدته إلى حين لغة الساسة، وبطاقات الوعود الغربية الزائفة، وأثقال الحياة المادية المتراكمة المتتابعة، فلا يستطيع شريف أن يمنع نفسه من سورة الغضب، ولا يفيق إلا على هذا البركان المتفجر من كل فج وحي، مستصرخا بقضيته التي استفاق وقد وجد نفسه كثيرا ما كان (سلبيا) تجاهها، ولسان حاله ومقاله: “يا أنا يا السفارة في قلب العمارة”.” مش هانسلم مش هانبيع.. مش هانوافق ع التظبيط”.
و(التطبيع) وإن كانت لفظة عربية فهي تعني التوليف بين الطباع والتقريب بين الفرقاء والخصماء، وتغليب العقل الثقافي على الإرث التاريخي النفسي، والاجتماعي، وهي لفظة غير مناسبة في السياق الدرامي، فآثر الكاتب لفظة (التظبيط) بلغة الشارع العربي، وهي تعني أمرا بٌيّت له بليل من قبل الساسة والسلطة على غير رضى من المواطن المعني بالأمر والطرف الأساسي في تفعيله.. ولذا يهمّ مسارعا ليرفض مجرد التظبيط فضلا عن التطبيع.
وهنا تنتهي حبكة الرواية.. لكننا، نستفيق بعدها بعشرات السنوات على المشهد الحقيقي لا الروائي، ولهو أشد وقعا مما تصوره الكاتب أو المخرج أو الممثل في العمل الدرامي، إن الواقع قد جاء ليفجأنا بل يقرعنا بهذا التطبيع العربي الذي كأنما يروادنا في حلم من خيال، أو في رواية قاسية لم تحتملها نفوسنا كتابة فجاءت على وجه الحقيقة..
وكما قال نزار: ما دخل اليهود من حدودنا.. لكن تسربوا كالنمل من عيوبنا؛ لقد راحت الكيانات العربية تولي وجهها شطر التطبيع والتطبيل، تفتح السفارات على مصاريعها، وتتبادل الزيارات، وتٌقرع الأنخاب، وتفتح خطوط الطائرات، وتستقدم الخبرات العسكرية والزراعية والعلمية، الدعوات والبركات.. وهرول المعارضون لكامب ديفيد المنددون بتوقيعها، هرلوا يستدعون هذا الحليف إلى بلادهم؛ وتغيرت خريطة السياسة العربية في السودان والخليج والعرب جميعها.
بل أشد من ذلك وأعتى.. قفزت دعوة إلى أمر جلل، لم ينزل الله به من سلطان، الديانة الإبراهيمية، والدولة الإبراهيمية المخترعة تحت رعاية الكيان، وتعاون بين الفرقاء والأعداء والخصماء، بل رضي البعض بالتقسيم في الوطن الذي لايملك من ترابه حبة خردل، ولا يحكم فيه إلا زمنا زهيدا، ثم يذهب ما خططت وما أزمعت أيديهم وعقولهم إلى بوار، ثم يأتي وعد الحق برجاله فيتبروا ما علوا تتبيرا، وتحق عليهم لعنات الدهر تترى من التاريخ والأجيال والأحفاد.