دراسة نقدية لقصيدة «في عيون الشام» للشاعر العُماني سعيد الصقلاوي
د. عطا أبو جبين | فلسطين
لقد تجلت إبداعات الشاعر في هذه القصيدة بالتعبير النفسي القلق والمتوتر والمشحون بعواطف ملؤها الحزن والخوف والوجل على بلد يسكن السويداء من قلب كل عربي بتاريخه العريق المشرق وبما يرمز إليه من عناوين الحضارة والعراقة والأصالة وقد تمثل هذا الحزن الشديد والألم الممض في عنوان قصيدته التي اختار لها عنوان موح وهو العيون ولا يوجد أشد ايلاما على النفس من العيون؛ فالعين هي التي تظهر ما تخفيه النفس وتظهرمدى الحزن بالنشيج والبكاء وهي التي تظهر الألم في داخل الانسان وهي التي تظهر القلق والتوتر والانزعاج والفرح ولا يوجد جزء في جسم الانسان أصدق منها للتعبير عما يجول في داخل النفس البشرية فقد أودعها الله سبحانه وتعالى هذه الخصائص التعبيرية اللامتناهية في الفرح والحزن فاختار الشاعر ذلك العنوان (في عيون الشام) وتجلى في هذه العبارة الاستعارية ما يدور في خلد الشاعر ولنا ان نتخيل ما تظهره عيون الشام من أحزان وآلام وآمال …..ومن……
يا صديقي
في عيون الشام كرمى للكراماتِ
و ضياء الدهر تاريخ السؤالاتِ
و عيون الشام غابات المروءاتِ
و مروج الشام أزهار النبواتِ
أما ما يلفت النظر من جهة ثانية في هذه القصيدة ويتجلى فيه الصدق اللاشعوري عند الشاعر فهو اختياره لهذا الشكل الخارجي من القصائد وأعني بذلك القصيدة الدائرية المغلقة وهذا النوع من القصائد يتناسب تماما مع المواقف التي تثير الشاعر وسيتحدث عنها فالقصيدة الدائرية تنتهي كما ابتدأت وكان الشاعر يدور في حلقة مفرغة وهذه من أهم دلالات وخصائص القصيدة الدائرية فقد بدأها الشاعر بعبارة يا صديقي وانتهت بالعبارة نفسها ولم يجد أعز من الصديق ليشكوه بثه وحزنه والدلالة الأخرى التي ترمز اليها هذه النوعية من القصائد تتجلى بأوضح وأجلى معانيها فيما نشاهده ونراه ونحسه في كل يوم من قتل وتعذيب وتشريد وتوتر وقلق وخوف وجوع ومرض وتشرذم.
وهذه المشاهد تتكرر كل يوم لم تنته ولم تتوقف وهذا ما جعل الشاعر يدور في هذه الدائرة يلتمس الخروج منها ومن مآزقها ودهاليزها ولكنه لم يستطع وبقي في داخل ذلك الربق يدور ويدور حتى كل ومل وفي النهاية أغلق دائرته على نفسه وأخذ يدور بلا توقف وبقيت رحى الحرب تطحن وتدور الطواحين بلا توقف فإذا بالشام وليمة لجرادها.
لقد حاول الشاعر ان يستنجد ويستصرخ التاريخ والعراقة والخلافة والأحاديث النبوية الشريفة…. لعلها تنقذه وتنقذ شآمه مما هي فيه ويذكر فلم تنفع الذكرى فناح وباح بمكنونات نفسه.
شهداء الشام انوار المناراتِ
و صبايا الشام اقمار المداراتِ
و شباب الشام أعلام البشاراتِ
و حروف الشام نجمات البطولاتِ
و صليب الشام تقديس البراءاتِ
و أذان الشام توحيد الرسالاتِ
و كتاب الشام اسراب الحماماتِ
و معاني الشام إكليل الحضاراتِ
و جمال الشام آيات المحباتِ
و حديث الشام موسيقى المسراتِ
لقد استحضر في نفسه كل آيات الجمال التي تزدحم بها الشام والتي لها ذكريات في غاية الجلال والروعة وهو يتمثلها في نفسه ولا يريد لها ان تتغير او تتبدل بل يستنكر كل الصور والمشاهد التي يراها ولا يصدق ذلك وكأنه يقول : إلام الخلف بينكم إلاما وهذه الضجة الكبرى علام
فجاء كلماته بسيطة معبرة منسابة ونائحة وهو يتذكر العراقة والخلافة والثغور والحكم…. وفيروز تغني رائعتها الجميلة :
شآم اهلوك احبابي وموعدنا
أواخر صيف آن الكرم يعتصر
فأين هي الشام وأين كرومها وحدائقها الغناء التي ضربت بها الأمثال:
و معاني الشام إكليل الحضاراتِ
و جمال الشام آيات المحباتِ
و حديث الشام موسيقى المسراتِ
و فرات الشام أسفار السجالاتِ
يا صديقي الشام آلاء الإباءاتِ
بردى و الشام عنوان الإرادات
يا صديقي
ولنا أن نتحدث عن جانب مهم ومثير في هذه القصيدة ويتجلى في اختيار الشاعر لقافية تتناسب وموقفه الحزين ليعبر بها عن استنكاره وشجونه وهي ما يتناسب تماما وموضوع قصيدته وهذه القافية مع ان الشاعر اختار أسلوب الشعر الحر إلا ان هذه القافية التي عاد بها الى عمود الشعر العربي تتلاءم والموقف الحزين فهي تعبر عن آهات النفس واختلاجاتها وتستوعب حزن الشاعر وأغلب عبارات الحزن في اللغة العربية تنتهي بالألف والتاء الحسرات النكبات الويلات وهذه القافية تستوعب بعمق كل ما يختلج في نفس الشاعر مع انه لم يستخدمها مطلقا في هذه القصيدة للتعبير عن الحزن وكل العبارات التي اختتمت بها توحي بالتفاؤل والأمل والشموخ ولكنها ردة فعل الشاعر وهو يعكس ما يحدث بل يستنكر ما يحدث فيعكس الصورة تماما للواقع المعاش ويعيد للأذهان تلك الصورة المشرقة والماضي العريق مستنكرا ما يحدث ومغيبا تلك الصورة الحاضرة والمشهد الواقعي لشدة تاثيرها في نفسه ويستبدلها بالصورة الحقيقية التي كانت عليها الشام على مر الأزمان والعصور.