نظرية القبيلة في مقدمة ابن خلدون

 

 د.إسلام إسماعيل أبوزيد | مؤرخ مصري
ابن خلدون يعتبر أول من تحدث عن علم اجتماع البدوي هذا الفرع من فروع علم الاجتماع العام الذي يهتم بدراسة ظاهرة البداوة في المجتمعات العربية، وهو يرى أن شرط نشؤ العصبية هو المجتمع البدوي أو العمران البدوي كما يسميه بصفة عامة والقبيلة بصفة خاصة، وذلك من خلال نصوصه في المقدمة كقوله:”..في أن سكنى البدو لا يكون إلا للقبائل أهل العصبية”.
يخصص ابن خلدون الفصل الثالث من المقدمة للدول والملك والخلافة ومراتبها وأسباب وكيفية نشوئها وسقوطها، مؤكدا أن الدعامة الأساسية للحكم تكمن في العصبية.

والعصبية عنده أصبحت مقولة اجتماعية احتلت مكانة بارزة في مقدمته حتى اعتبرها العديد من المؤرخين مقولة خلدونية بحتة، وهم محقون في ذلك لأن ابن خلدون اهتم بها اهتماما بالغا إلى درجة أنه ربط كل الأحداث الهامة والتغييرات الجذرية التي تطرأ على العمران البدوي أو العمران الحضري بوجود أو فقدان العصبية. كما أنها في رأيه المحور الأساسي في حياة الدول والممالك.
والقبيلة عنده هي البدو، والبدو أقرب إلى الخير – كما يقول – وذلك لأنهم أقرب إلى الفطرة ومعاشهم يقوم على الضروري ولم يدخلوا بالكمالي والترفي وبما ان حياتهم تقوم على الفطرة والضرورة فهم على عكس الحاضرة التي دخلت في الترف المعاشي، ويصل هذا إلى حد استخدام اللغة ذاتها فالحضري انتهك حرمة اللغة وآداب الخطاب فصار لا يتورع عن الفحش في القول حتى مع وجود المحارم والصغار، بينما البدوي ظل على علاقة الاضطرار مع اللغة فلا يستخدم اللفظ إلا للتعبير عن شرط حياته، ولذا يرى ابن خلدون أن البدو أقرب إلى الخير من أهل الحضر .
كما أنه يرى البدو أشجع من الحضر لأن الحاضرة وكلوا أمر حمايتهم للوالي وجند السلطان، وهذا جعلهم يركنون إلى الدعة، بينما ليس لدى البدو حامية تحرس الحمى ولذا صار أمر الحراسة والمدافعة لهم بأنفسهم أفراداً وجماعة، ولذا تدربت أنفسهم على الحمية وصارت الشجاعة جزءاً من يوميات حياتهم وهم أكثر بأساً في عدم الانقياد وتقبل الأحكام على نقيض الحاضرة.
ويفرق ابن خلدون بين أهل الإبل وأهل الغنم حيث يكون أهل الإبل أشد بداوة وبالتالي أعلى في الشجاعة مثلما هم أكثر صفاء في نسبهم لقلة اختلاطهم وشدة توحشهم ومن ثم ارتفاع فطريتهم .
ولكن ابن خلدون الذي مدح البدو بقربهم من الفطرة والخير وبالشجاعة عاد ليصفهم بالتوحش في تعاملهم مع الحاضرة، وجعل حياتهم المتوحشة في الصحراء سبباً لولعهم بالخراب، وكلما دخلوا بلداً خربوه، والمباني عندهم ليست دوراً للمأوى بل هي حجارة قابلة للتهديم لأن البدوي يحتاج الحجر ليستعمله أثافي تسند القدور، مثلما يحتاج الخشب للوقود ولأوتاد الخيمة، ولذا فإنه – كما يقول ابن خلدون – يبادر إلى هدم البيوت لأخذ حجارتها وخشبها لأغراضه الصحراوية، وكلما استولوا على بلد سارعوا إلى نهب أموال الناس وتدمير بيوتهم وممتلكاتهم، وليس لهم عناية بالأحكام ولا بأصول الحكم والنظام، وهمهم هو الأخذ والغنيمة وليس إصلاح أحوال الناس فيما يغزونه من بلاد.
ويرى ابن خلدون ان البدو ما دخلوا بلداً إلا عم فيها الفساد والخراب، وهم مفسدة للعمران، وليس لهم نظام رئاسي ولا يسلم أحد منهم الأمر لغيره وكل منهم رئيس لنفسه لا إمرة لأحد عليه، وأعطى مثالاً لدخول بني هلال وبني سليم على بلدان المغرب حيث عم الخراب بلدان المغرب بعد ان كان العمران يمتد من بحر الروم إلى السودان وتحول العمران إلى دمار شامل بسببهم .
هذه هي صورة البدو في فكرة ابن خلدون ولاشك أنها صورة منحازة وفيها قدر غير قليل من العنصرية واللاموضوعية، وليس لأنها غير صحيحة كأخبار وحوادث، ولكن لأن ابن خلدون هنا لم يحاول قراءة الحوادث وقراءة علاقات البشر بالبشر تحت عنوان الصراع البشري بين القوى.
وابن خلدون هنا يمدح ويذم دون أن يحيل التصرفات إلى مرجعياتها الذهنية الجذرية، ولقد مدح البدو في شأنهم الخاص في ديارهم ومعاشهم ثم ذمهم في علاقتهم مع الآخر، أي أن الذات صالحة ومتوافقة مع ظرفها بما إنها ذات خاصة، ولكنها غير ذلك مع الآخر.
لو قرأنا سلوكيات الغزو والاحتلال لعلمنا أنها كلها تسير في نسق واحد، وهو تدمير الخصم معنوياً ومادياً مع الحرص على تحقيق أكبر قدر من الغنيمة، وإن كانت الغنيمة عند البدو حجارة وخشباً للوقود كما حددها ابن خلدون فإنها عند أمريكا المتحضرة نفطاً للوقود أيضاً، وكلما كسر بدوي منزلاً لأخذ الحجر فإن أمريكا على استعداد دائم لضمان وقودها بأي وسيلة كانت حتى باستعمال القنابل الذرية وإفناء كل البشر، وتدمير هيروشيما أكبر من تدمير بلدان المغرب.
وليس ما قاله ابن خلدون بأمر خاص بثقافة البادية ولكنه صبغة ثقافية بشرية هي نسق ثقافي يقوم به ويؤديه ويمثله كل بوسائله الخاصة، وهو نموذج لعلاقات الخصم مع الخصم والمنتصر مع المهزوم وعلامة على الدافع المصلحي للغزو وتوظيف القوة لتحقيق المكسب .
ثم إن ابن خلدون أشار إلى عدم اهتمام البدو بأحكام البلدان ولا بمصالح الناس بعد قهرهم وأنهم لا يهتمون إلا بالغنيمة ولا ينظرون في إصلاح أمر المغلوبين، وهذه صفة نعرف أنها من خصائص كل الغزاة ، مما هو من ثقافة الغزو والغنم والكسب، ولم يك قط من أجل نشر حضارة كما كان المستعمر القديم يقول ولا هو من أجل نشر الديموقراطية كما هي لغة أمريكا الحديثة، وليس هذا سوى شعار ظاهري يخبئ من ورائه مضمراً نسقياً عتيداً، ويكون مضمر القول ناقضاً لظاهره – كما هي الخاصية النسقية .
ومن المهم أن نضع في اعتبارنا أن الدولة في زمن ابن خلدون لم تكن تعد البدو جزءاً من الرعية وتراهم كياناً خارجياً ومعادياً، والدولة في ذلك الزمن كانت ضعيفة وضائعة، والحق أن كل الدويلات المسلمة التي نشأت في ظل ضعف الخلافة المركزية، كلها كانت لا تعامل البدو معاملة سلمية ولا تعدهم شعباً ولم يكن هناك مفهوم للمواطنة ولا حتى للرعية الشاملة.
يحدد ابن خلدون مدة وراثة الرئاسة ضمن العصبية القوية بأربعة أجيال على العموم، أي بحوالي 120 سنة في تقديره.(ذلك بأن باني المجد عالم بما عاناه في بنائه ومحافظ على الخلال التي هي سبب كونه وبقائه، وبعده ابن مباشر لأبيه قد سمع منه ذلك وأخذ عنه، إلا أنه مقصر في ذلك تقصير السامع بالشئ عن المعاين له ثم إذى جاء الثالث كان حظه في الاقتفاء والتقليد خاصة فقصر عن الثاني تقصير المقلد عن المجتهد ثم إذا جاء الرابع قصر عن طريقتهم جملة وأضاع الخلال الحافظة لبناء مجدهم واحتقرها وتوهم أن أمر ذلك البنيان لم يكن بمعاناة ولاتكلف، وإنما هو أمر واجب لهم منذ أول النشأة بمجرد انتسابهم وليس بعصبية. واعتبار الأربعة من الأجيال الأربعة بان ومباشر ومقلد وهادم).وبذلك ينهي ابن خلدون نظريته المتعلقة باسلطة أثناء مرحلة (العمران البدوي) ويخلص إلى نتيجة أن السلطة في تلكُمُ المرحلة مبنية أساسا على العصبية بحيث لا يمكن أن تكون لها قائمة بدونها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى