حكايتي مع القراءة

رجاء حميد رشيد| العراق
ورثت هواية المطالعة وعشق القراءة والكتابة من والدي الصحفي والمترجم حميد رشيد رحمه الله، وبالرغم من رحيله المبكر، وأنا لم أتجاوز الرابعة من عمري، ولكن الجينات الوراثية منحتني صفاته وكبرت معي، ومكتبة والدي التي زينت جدار غرفة الاستقبال في بيتنا كانت أجمل ركن في البيت، وكان لها  كبير الأثر في  ولوجي عالم الكتب والنواة الأولى لغرس ثقافة المطالعة، وتنمية فكري وصقل شخصيتي،  وابتدأت رحلتي مع القراءة بصورة مبكرة جدا حيث احتوت مكتبته على كتب في كافة المجالات ومنها كتب الأطفال المتنوعة (القصص والمجلات وباللغتين العربية والانكليزية) وهي لأخوتي  الأكبر مني سناّ فأنا آخر العنقود لعائلتي، جذبتني المطبوعات الملونة بطبعاتها الفاخرة التي تلفت نظر الطفل  وتثير اهتمامه وفضوله لتصفحها، والتعرف على قصص الصور الجميلة التي تزين صفحاتها فحفظت الحروف الأبجدية وبعض الأناشيد باللغتين العربية والإنكليزية ، وتطورت قراءاتي إلى مجلة الهلال المصرية والرسالة ومجلة العربي ..الخ، وبعد وفاته رحمه الله ودخولي المدرسة الابتدائية (مدرسة الفراقد النموذجية) الحكومية في منطقة حي القادسية كان ضمن منهاجنا المدرسي مادة اسمها (المطالعة) تدرس في يوم واحد في الأسبوع حيث تأخذنا معلمة المادة إلى مكتبة المدرسة الزاخرة بأنواع الكتب ولمختلف الفئات العمرية فقرأت سلسلة قصص ليلى والذئب وليلى تركب الدراجة  ومجلتي والمزمار الصادرة عن دار ثقافة الأطفال، وغيرها. وكان هناك الكثير من النشاطات اللاصفية منها فعاليات الكشافة والمخيمات الكشفية والتي تعلمنا على واجب احترام الآخر والمساعدة  وروح التعاون والتعايش السلمي، وكلنا متساوون في الحقوق والواجبات حتى أولاد الهيأة التدريسية بل كانوا الأكثر التزاماً ،ولابدَّ من الإشارة إلى أنَّ أغلب المدارس حكومية حيث كانت المدارس الأهلية تعد على أصابع اليد، وكنا نذهب إلى المدرسة سيراً على الأقدام ولا توجد خطوط نقل الطلاب، فكان الشارع يكتظ بالطلبة صباحاً، وظهراً ليمثل صورة رائعة لشباب /بات المستقبل.

مكتبة الطفل العربي
 وعند حلول العطلة الصيفية وكنا نسميها (العطلة الكبيرة) لنميزها عن العطلة الربيعية (عطلة نصف السنة أو العطلة الصغيرة) كنت وصديقاتي وزملائي في المدرسة حيث كانت مدرستي نموذجية تضم تلميذات وتلاميذ ولم يكن هناك تمييز (جندري) فقد كنا جميعا أخوة وأخوات يجمعنا فصل دراسي واحد ونجلس معا على رحلة واحدة بكل احترام وتقدير، وهذا بفضل الكادر التدريسي الرائع الذي علمنا على ثقافة الاحترام وقبول الآخر،  نذهب إلى مكتبة الطفل العربي كل عطلة صيفية والتي مازالت موجودة لغاية الوقت الحاضر في دار ثقافة الأطفال إحدى تشكيلات وزارة الثقافة والسياحة والآثار، وكانت المكتبة بمثابة (summer school) تصدر لنا هويات، ويتم تقسيم التلاميذ إلى مجموعتين، وحسب أيام الأسبوع ويتم تثبيت أيام ارتياد المكتبة في هوية كل منا، كانت هناك قاعتان للمطالعة  والرسم مصنفة حسب الفئات العمرية  الأولى  من 6_10) سنة، والثانية من (10_ 12) سنة، وتضم القاعات في رفوف مكتباتها الكتب والمجلات المناسبة حسب الأعمار فضلاً عن الألعاب مثل الميكانو وغيرها، بالإضافة إلى تقديم وجبة طعام عبارة (ساندويتش صمون كهربائي دائري الشكل وشرائح جبن مع علبة عصير)، وعند الساعة الواحدة ظهرا يحين وقت مشاهدة فيلم في قاعة السينما في المكتبة، وتعرض أفلام متنوعة مثل طرزان وصديقته شيتا، روبن هود الذي يساعد الفقراء، ميكي ماوس، وباباي ، وعرس الطيور ، والسندباد البحري ، وسندريلا  ، والأميرة النائمة والأقزام السبعة ، وفتاة الثلج .. الخ.
 أتاحت لي مكتبة الطفل والتي واظبت على ارتيادها في كل عطلة مدرسية التعرف على غاندي وشكسبير وتولستوي، وفؤاد التكرلي ويوسف الصائغ وغائب طعمة فرمان ونظرات وعبرات مصطفى لطفي المنفلوطي ونجيب محفوظ والأخوين أحمد ومحمد أمين، وآنا كارنينا، ومرتفعات وذرينغ ، وذهب مع الريح  وغيرها، كما تعلمت العزف على البيانو ضمن درس الموسيقى في المكتبة والتعرف على أصدقاء جدد،  ولابدَّ من الإشارة  إلى أنَّ التسجيل والتعليم الصيفي في المكتبة كله مجاناً عدا دفتر النوتة الموسيقية  اشترته أختي لي من مكتبة ألوان في المنصور حين اجتزت اختبار الموسيقى بنجاح وتم اختياري ضمن تلاميذ درس الموسيقى، كنا نستقل الباص الأحمر رقم (75) وكان طابق واحد، وليس طابقين لأنَّ مسار خطه فقط منطقة الحارثية والقادسية والرجوع إلى نقطة انطلاقته ساحة الطلائع، وكان الموظف المختص بتحصيل مبالغ أجرة ركوب الباص يطلق عليه اسم (الجابي) يرتدي زياً موحداً عبارة عن بنطلون وسترة بجيبين كبيرين بلون رصاصي، كثيرا مايتغاضى عن أخذ أجور النقل مما يدخل الفرح والسرور لقلوبنا الصغيرة .
 وعند انتقالي إلى المرحلة الثانوية (متوسطة وإعدادية) من المدرسة كنت وصديقاتي  نتبادل الكتب في العطل الصيفية لقضاء أوقات فراغنا بقراءتها ثم ندخل في نقاش حول موضوع الكتاب وحسب أفكارنا وثقافتنا البسيطة وكانت أجمل هدية عيد ميلاد نقدمها هي الكتاب، فالعطلة وقت راحتنا، وممارسة هوايتنا ولم نكن كما الوقت الحاضر نقضيها بالدروس الخصوصية للفصل الدراسي القادم ، فلسنا بحاجة لها فالتعليم كان يتسم بالرصانة العلمية والكادر التدريسي يتميز بالكفاءة سواء في تدريس المنهاج أو التعامل مع التلاميذ وكان المعلم قدوة حسنة ورحم الله أمير الشعراء أحمد شوقي في بيت شعره الشهير (كـاد المعلم أن يكون رسولا) .

ألعاب ومشاعر
لم يكن في وقتنا هواتف ذكية وحاسوب  لنقضي أوقات فراغنا في ألعاب إلكترونية مع أشخاص افتراضيين ، بل كنا نختار ألعابنا وبما يناسبنا مع أصدقاء حقيقيين محملين بكل المشاعر الإنسانية، وكنا نركب الدراجة في الشارع حيث لم يكن هذا الكم الكبير من السيارات التي زاحمت المشاة حتى في الأماكن المخصصة للسير (الأرصفة) ، وكنا نتسابق للحصول على الجريدة  أو المجلة لحل الكلمات المتقاطعة أو لعبة الألغاز، أو إيجاد الفروقات السبعة بين صورتين  في  صفحة المنوعات الأخيرة، إضافة إلى لعبة (اسم، حيوان، جماد، مدن) ويكون الفائز هو أول من يملئ هذه الحقول وبصورة صحيحة، ونلعب مختلف الألعاب الرياضية فنجد عند كل بيت تقريبا ” كرة قدم، كرة سلة ،كرة منضدة، ريشة، حبل) بالإضافة إلى لعبة الختيلة وسباق الركض فلم نكن بحاجة إلى (جم) .
 كان يومنا منظماً فلم يكن هناك ستلايت وفضائيات، نصحو من النوم قبل العاشرة صباحا مع افتتاح القناة التلفزيونية المحلية وكانت عبارة عن قناتين (قناة 9 وقناة 7 وغالبا ما تقدم الأخبار والأغاني فيها باللغة الانكليزية، وقناة ثالثة تربوية خاصة لتقديم الدروس الخاصة بالمناهج المدرسية بمثابة تقوية  لمستوى الطالب الدراسي، ويبدأ  البث التلفزيوني عند الساعة العاشرة  صباحا بتلاوة من آي من الذكر الحكيم ثم أفلام كارتون ،وتتنوع البرامج على مدار الأسبوع  منها برنامج المرسم الصغير للفنان خالد جبر لتعليم الرسم، وبرنامج الحديقة المنزلية وكنت أتابعه بشغف لمعرفة أنواع نباتات الظل وكيفية العناية بها والمحافظة عليها، وأسجلها في دفتر ملاحظاتي الذي لايفارقني، وكنا ننتظر بلهفة البرنامج الأسبوعي سينما الأطفال الذي تقدمه نسرين جورج عند الساعة الرابعة عصر كل خميس .
وكنت أحرص على شراء مجلة مشوار اللبنانية لتنوع مواضيعها من جهة ولنشرها أغنية الأسبوع (أغنية مشهورة باللغة الإنكليزية ومترجمة للعربية) ليتسنى لي حفظها ومعرفة معانيها دون الرجوع إلى قاموس اكسفورد، وعند افتتاح إذاعة أف أم التي تقدمها شميم رسام أصبحت أحفظ الأغاني الأجنبية بسهولة من خلال  كلماتها المنشورة في مجلة مشوار والاستماع لها من الإذاعة المذكورة  منها فريق (بوني أم، بي جيز، بيتلز، كيني روجرز ، التون جون ، فرانك سيناترا، لونيل ريتشي ، جون لينون ، بولانكا، مودي بلوز، تينا جارلس وفريق أبا.. الخ ) ..
لكل منا قصة حياته لم يكن له يد في اختيارها فالإنسان وليد بيئته وظروفه ترسم له طريقته في الحياة، فالصرخة  الأولى  ايذاناً  بولادة إنسان جديد يخرج إلى الدنيا دون أن يختار اسمه أو عائلته ، سرعان ما يكبر ويصبح كائن  يحاول أن يكون مستقلاً بذاته ليرسم مستقبله ويختار ما يناسبه حسب ظروفه وإمكانياته ليكون جزء من مجتمعه، وهنا تلعب الجينات الوراثية والظروف المعاشية دورها في تحديد مستقبل الفرد وسلوكه  فكثيرا ما نلاحظ تأثر الأبناء بوالديهم فيسيرون على خطاهم في اختيار التخصص العلمي أو الأدبي والمهنة وقيل قديما ” الابن على سرّ أبيه” وأنا اعتقد أن هذه المقولة تشمل الأم والأب ولا يمكن إلغاء دور أي منهما .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى