الجامعات كبنية معرفية وحالة ثقافية: الواقع والتحديات
د. إيهاب بسيسو نائب رئيس جامعة دار الكلمة للاتصال والعلاقات الدولية | فلسطين
ملاحظات عاجلة حول الجامعات الفلسطينية
من المهم النظر إلى الجامعات كأكثر من بنية تعليمية محضة، فهي الفضاءات المشرعةعلى اختبار المفاهيم الحياتية المختلفة وهي الحاضنات للإبداع والتطوير وهي منصات الانطلاق لعوالم الغد وهي استمرار المسيرة التعليمية والحياتية المتبلورة كتجارب معرفية في الأُسَر ودور الحضانة والمدارس ومؤسسات المجتمع المتعددة.
تعد الجامعات مرايا النقد والحرية والرؤية الوطنية المساهِمَة في صناعة الشخصية الفردية والجماعية القادرة على مواجهة التحديات وصون مفردات اللغة من القلق والعزلة وأنماط الانكسار المختلفة.
لهذا يمكن النظر إلى عمارة البنية الجامعية الفكرية كفلسفة ونبض وبناء معرفي يمتزج بروح الجغرافيا والتاريخ وعبق التراث والهوية كمكونات ضرورية للتواصل مع الحاضر والمستقبل بثقة وانتباه وكبرياء دون إحساس بالارتباك أو الهزيمة.
انسجام السياسات الجامعية الإدراية والأكاديمة مع هذا النبض المتبلور من التدفق الطلابي المتواصل في التخصصات الأكاديمية والأنشطة والفعاليات الثقافية والرياضية والمجتمعية، يساهم في تعزيز روح المبادرة العملية في مختلف المجالات ما يجعل استثمار هذه الطاقات الشبابية المتدفقة جيلاً بعد جيل في فضاءات العمل والمجتمع مسألة ضرورية لخلق مساحات جديدة من العمل والابتكار والريادة والإبداع والتفاعل والنقد المعرفي القائم على تعزيز مفاهيم الديموقراطية واحترام التعددية وحرية التعبير.
فقد تكون هذه القوة الشبابية المتشكلة في البنيات الجامعية المختلفة هي نفسها القوة القادرة والمؤهلة والمؤثرة في صناعة مفردات المستقبل، واستثمار ذلك في خلق قوة دافعة مستمرة وقادرة على المساهمة في التغيير والتطوير المجتمعي يعد فرصة مثالية للاهتمام في تطوير وإصلاح العديد من السياسات التعليمية والثقافية القادرة على خلق هذه المساحة المشتركة بين الطلبة من جهة والحياة الأكاديمية ببعدها الثقافي والتنويري والاجتماعي.
لذلك يمكن القول إن الجامعات الفلسطينية ببنيتيها المعرفية والثقافية تعد من أهم المختبرات الاجتماعية والمنصات الحيوية القادرة على جعل المناخ والممارسة الديموقراطية مسألة ممكنة وضرورية. فإضافة إلى كون الجامعات خزانات استراتيجية للمعرفة إلا أنها المساحات الأكثر تأثيراً في البنية المجتمعية المحلية لجعل المستقبل ممكناً بقيمه الانسانية ومفاهيمه الضرورية عن الحرية والعدالة.
إن الاهتمام بتطوير آفاق التعليم العالي ومواكبة التطورات العصرية واحتياجات سوق العمل المحلي والدولي بما يشمل مجالات اقتصاد المعرفة والاقتصاد الثقافي مسألة أساسية على صعيد التخطيط الأكاديمي والثقافي حيث يعد ذلك مزيجاً ملائماً وضرورياً لبناء الشخصية الشبابية وتزويدها بالاحتياجات اللازمة من معرفة وقيم تجعلها قادرة على الاستمرار في العطاء والمساهمة في مسيرة البناء المجتمعي وتعزيز قيم التعددية والحرية.
فالجامعات إضافة إلى كونها مصدر أساسي من مصادر المعرفة العلمية إلا أنها أيضاً مصدر لا يقل أهمية على الصعيد المجتمعي في تعزيز مفاهيم التعددية والتشاركية المجتمعية والتي من الضروري تنميتها والحفاظ عليها كسمة من سمات الحياة الجامعية بشكل خاص والحياة الفلسطينية بشكل عام، ما يعني المزيد من الانتباه السياساتي والإداري لسلامة البيئة الجامعية من مسببات الاحتقان والتشنج الفكري من جهة ومدى انعكاس ذلك على الفعل والنشاط الطلابي من جهة أخرى.
إن خطورة التغاضي عن أي من التشنجات الفكرية والسياساتية في أي من مظاهر الحياة الجامعية قد يدفع مع الوقت إلى تفتيت البنية الجامعية كبنية معرفية ديموقراطية وضرورية في مواجهة مختلف أشكال التحديات الفكرية والاجتماعية. أو قد يدفع ذلك أيضاً إلى تقلص تدريجي لدور الجامعة المؤثر والمطلوب في إحداث التغيرات الصحية في البنية المجتمعية بما يعزز من قيم التعددية والديموقرطية والاحترام المتبادل.
لذا يعتبر استثمار المزيد من الجهد لتنمية مناخات الحرية في الأنشطة والفعاليات الطلابية داخل الجامعات مسألة ضرورية لتعزيز أجواء التكامل الوظيفي في العلاقة بين الطلبة والإدارات الجامعية وذلك من خلال تبني سياسات قادرة على مواجهة التحديات المجتمعية وتوظيف الطاقات الشبابية كمصادر قوة متعددة الطموحات والتأثير في طبيعة وبناء وشكل المجتمع الفلسطيني.
في المقابل من الصعب الحديث عن التعليم في فلسطين دون التوقف أمام ما تواجهه الجامعات الفلسطينية من تحديات بسبب المعيقات التعليمية والسياسية والاقتصادية والتي يسعي من خلالها الاحتلال إلى تقزيم الدور المعرفي والاجتماعي للجامعة الفلسطينية. قد يكون العزل الجغرافي بسبب الحواجز وجدران العزل أحد ملامح هذه المعيقات التي تدفع إلى تكريس منطق وسياسة العزل الجغرافي “الهادئ” والذي يصاحبه عادة اقتحامات عسكرية متكررة للجامعات بما يشمل اعتقال طلاب وطالبات وأعضاء هيئات تدريسية، ما يسبب الكثير من الإرباك الأكاديمي والاجتماعي، حيث لا يمكن فصل البيئة الجامعية عن البيئة المجتمعية الأكبر بما تعانيه من سياسات الاحتلال.
إضافة إلى ذلك وإمعاناً في ممارسة سياسات التفتيت والعزل الجغرافي والأكاديمي بصوره المتعددة، فإن وضع الاحتلال للقيود المختلفة حول تبادل الخبرات الأكاديمية بين فلسطين ودول العالم بما يشمل تحديد استقدام الخبرات الأكاديمية الدولية يعد من أبرز المعيقات التي تواجهها الجامعات على صعيد التخطيط والاستقرار الأكاديمي.
وقد يدفع هذا إلى الانتباه أيضاً إلى سياسة العزل الجغرافي “الخشن” والمتمثلة بعزل كُلي لقطاع غزة عن الضفة الغربية فيما يتعلق بوصول الطلبة والخبرات الأكاديمية من قطاع غزة إلى الجامعات الفلسطينية في الضفة الغربية أو العكس.
هذا المشهد البانورامي للحياة الأكاديمية الفلسطينية يقدم صورة مكثفة لطبيعة التحديات والصعوبات التي تواجهها الجامعات الفلسطينية، والتي رغم كل ما سبق ما زالت قادرة على المنافسة الأكاديمية اقيلمياً ودولياً وقادرة كذلك على تعزيز مسارات التعاون الأكاديمي المختلفة مع دول العالم، رغم مختلف أشكال التحديات.
وقد يدفع تأمل هذا المشهد بشقيه المؤلم والمشبع بالأمل إلى مواصلة التفكير خارج الصندوق فيما يتعلق بالتخطيط الأكاديمي وحماية البنية الجامعية فكراً وممارسة من كل مسببات الهشاشة والإرباك حرصاً على عدم الانزلاق بأي شكل من الأشكال إلى أي حالة من حالات “التقييد الأكاديمي والتعليمي” نتيجة الضغط والحصار المتواصل بصورتيه المرئية وغير المرئية للحياة الأكاديمية الفلسطينية.