الوجه الآخر للغرب

محمد أسامة | الولايات المتحدة الأمريكية
لاشك أن الحرب الأخيرة التي اشتعلت على تخوم الغرب قد كشفت الكثير من الجوانب التي كانت خافية على أبصارنا، وغائبة عن مداركنا، وتجلَّت معها حقائق متعددة لم نكن على علم بها، وقامت بوضوح بكشف عورات الحضارة الغربية وأبانت عن قدر كبير من مساوئها، وأفصحت جليَّا عن جانبٍ من انحطاطها، وكثيرٍ من العفن الذي كان مختفيا بين جنباتها.
ولسنا هنا بصدد الحديث عمَّا أدى إلى اشتعال الحرب بين روسيا وأوكرانيا من عوامل سياسية، وأسباب اقتصادية، تجسِّدها صراعات دولية عميقة بين الشرق الأقصى والغرب الأوربي، وصراع على بسط السيادة وإثبات النفوذ بين الدول العملاقة، وغيرها مما يثبت أن القوة هي معيار الحق وليس العدل، وهي أمور يطول البحث فيها، ويكثر الحديث عنها، وقد اختص بها المحللون السياسيون فتناولوها حديثا وبحثا، وقتلوها تحليلا ودراسة، فضلا عن جوانب أخرى خفية قد تظهر لاحقًا مع مرور الأيام ولكننا بصدد الحديث عن الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والحضارية التي كشفتها تلك الحرب، والتي اشتعلت على تخوم الغرب.
فقد كان العدد من أبناء أمَّتنا ينظرون إلى الحضارة الغربية نظرة احترام وتقدير، وتعظيم وتبجيل، لما وصلت إليه من تقدم ورقي، ونمو وازدهار حضاري، وتفوق علمي وثقافي واجتماعي، شمل شتى الجوانب، فصارلت لهم قبلتهم التي يأتمون بها، وييممون نواصيهم شطرها، وصار الغرب عندهم معيارًا للتقدُّم، بينما بات الشرق لديهم معيارًا للتخلُّف، بعدما أبصروا بأم أعينهم أن الغرب قد تفوَّق على العالم الإسلامي في كل الجوانب، بل وبالغ بعضهم فأصبح ينظر إلى أبناء شعبه نظرة احتقار وتعالي، ومنهم من أخذ يطعن في الحضارة الإسلامية القديمة وما أفرزته من علماء ومنجزات على مر القرون.
ليتبيَّن لاحقًا أن الغرب وإن تفوَّق على العالم الإسلامي في القرنين الآخيرين فقد كشفت الحرب الأوكرانية الروسية عن عدة جوانب سلبيَّة تمثل مظاهر انحطاطٍ وتخلُّف في تلك الحضارة التي كنا نظنُّها ناصعة، ويراها فريق منها نظيفة راقية، ليتبيَّن أن قيم الغرب عن الإنسانية والعدالة قيم ناقصة مجتزأة، كاذبة وممتهنة، لا تتطبق إلا على شيعتهم، ولا يعنون بها إلا مع أنصارهم، وليتبيَّن كذلك أن الغرب ينظر إلى العربي نظرة عنصرية واحتقار، واستعلاء وانتقاص، متناسيين تمامًا فضل حضارة الإسلام عيهم، وما قدَّمت قديمًا لهم، فقد كانت حضارة الإسلام السبب الرئيسي فيما وصل إليه الغرب حديثًا من وازدهار وتطوُّر، ورقي وتقدم، ولنا في حضارة الأندلس مثلًا يُحتذى، حيث كان طلاب الغرب يفدون إلى مدن الأندلس للتعلُّم في المدارس والجامعات الإسلامية، حيث نقلت الأندلس إلى الغرب العديد من العلوم والمعارف في الطب والهندسة والزراعة والصناعة والرياضيات وعلوم الكيمياء والطبيعة وحتى علم الطيران، ولنا كذلك في جسر التواصل الثقافي بين بغداد حاضرة الخلافة العباسية وأوربا حيث كانت البعثات العلمية تتوافد بين الجانبين وكان العالم الإسلامي يعيش قمَّة انتعاشه وعهوده الذهبية، رغم القلاقل والاضطرابات السياسية، بينما كانت أوربا غارقة حينها في مستنقعات الجهل والتخلف، إلى أن تعرَّض العالم الإسلامي لعدة غزوات وحروب من قبل الصليبيين ثم المغول ثم أعقبها استلاء العثمانيين على معظم البلاد العربية وفي تلك الفترة تدهورت أمور البلاد العربية تحت الحكم العثماني ببيما خطا الغرب خطواته حتى بلغ أوج مجده، وقمة ازدهاره، فسبق المشرق الإسلامي ومن ثم احتقره ونسي فضله.
لقد كشفت تلك الحرب عن جوانب عفنة في تلك الحضارة الرائدة، من بينها جانب عنصري بغيض، وطابع متسلِّط ممقوت، والكيل بمكيالين، والاحتكام إلى معايير مزدوجة ومتناقضة، فنرى الغرب مثلا لم يُعر اهتمام للجرائم البشعة، ولا لتلك المذابح المروعة، التي ارتكبها المجرمون الروس في بلاد الشام، ولم يعترض على منظر الجثث والأشلاء التي بلغت مئات الآلاف، ولم يرفض حينما قُصفت المدارس والمستشفيات والمنازل، ولم يهتز له جفن لمقتل النساء والأطفال في سورية، بينما انتفض غاضبًا ورافضًا لمقتل بعض من أتباعه والمنتمين إليه في أوكرانيا حينما غزاهم نفس المجرم وسرعان ما تدفَّقت المواقف الرافضة، والعقوبات الدولية الرادعة، التي لم نجد لها أثرًا حينما كان الضحايا من غير الأوربيين، ليكشف الغرب بذلك عن جانب عفن من حضارته، وأن حقوق الإنسان التي يتباهى بها إنما تخص فقط أتباعه وأنصاره، ولا يدافع عنها أو ينظر إليها إن كانت خارج حدوده، أو لو كانت الضحية لا تنتمي إلى بلد من بلاده.
وبينما امتعض بعض الغرب من تدفق اللاجئين السوريين، ومنهم من لجأ إلى إغلاق الحدود أمامهم، ومنهم من صوَّب الرصاص تجاههم، نجد أن الغرب نفسه قد فتح ذراعيه لللاجئين الأوكرانيين، واستقبلهم معزَّزين مُكرَّمين، وقابلهم بالأناشيد والاحتفالات والترحيب، مما يكشف وجهًا آخر للمعايز المزدوجة، وللعنصرية البغيضة، وقد كشف البعض صراحة عن هذا بكل تبجُّح قائلين ” هؤلاء ليسوا اللاجئين الذين اعتدنا عليهم إنهم أشخاص أوربيون أذكياء ومتعلمون. هذه ليست موجة اللاجئين التي اعتدنا عليها، أشخاص لم نكن متأكدين من هويتهم ، أشخاص لديهم ماض غير واضح، ويمكن أن يكونوا إرهابيين”.
ليست تلك المعايير المزدوجة فحسب التي كشفت ذلك الوجه القبيح العفن للحضارة الغربية، ولكن تلك الحرب أيضا قد كشف ما عليه الغرب من ضعف سياسي واقتصادي وعسكري، وهي عوامل سلبيه تصوِّر قدرًا من انحطاطه لم يكن واضحا قبل اشتعال تلك الحرب على تخومه، فأما الضعف السياسي والعسكري فقد تبيَّن جليًّا بعجز الغرب عن مجابهة الآلة العسكرية الروسية العملاقة، وخوفه من التصدِّي لها، أو التعرض أمام جيوشها، فوقف ضعيفًا هزيلًا يكتفي بالتنديد والوعيد، دون أن يكشف عن ذراعه، أو يظهر قوَّته وبأسه، وهو ضعف كشف بالفعل أن الحضارة الغربية ليست بالقوة التي اعتقدناها، وأنها سرعان ما ستنهار إذا تعرضت لغزو، أو نالها إي اعتداء.
وأما الضعف الاقتصادي فقد تجلى في عدم جرأة الغرب على اتخاذ مواقف حاسمه، وعدم مضيهم في قرارات حازمة، إذ أن كثيرًا من مواردهم وقطاعتهم، يستوردونها من ذلك العدو الذي كان حينًا يدعمهم ويرعاهم، ثم انقلب عليهم وآذاهم، مهدِّدًا إيَّاهم بحرمانهم مما يمنحهم إياه إذا ما وقفوا ضده، أو اعترضوا طريقه، فوقف الغرب موقف الشاهد الذليل، ناظرا إلى ما يجري نظرة الضعيف الهزيل، وقد جرى عليه ما كان يجري على بدان أخرى من مذلَّة وهوان، وقد ذاق وبال أمره، ورأى عاقبة فعله، ولو كان الغرب التزم المبدأ الواحد، وعمل بمبادئه مع الجميع لما انتهى تلك النهاية المخزية، ولا أودى به الحال إلى تلك الدروب المعتمة، ولو كان رفض الظلم الذي أحدثه الإجرام الروسي في سورية لما مسَّت نفس النار بلاده، ولا اقتحم الخراب دياره.
لقد اتضح من تلك الأحداث أن الغرب ليس قويا بالصورة التي كان يُنظر لها، ويُتَّصف خطأ بها، وإنه لم يتفوَّق على عالمنا الإسلامي بسبب تقدُّمه وتطوره، ولا بفضل حضارته وأفضليته، بل بسب ما جرى لبلادنا من ظلم واستبداد، وقهر واستعباد، وتسلُّطٍ على الشعوب المغلوبة على أمرها، والتي فقدت حريتها، فتقهقر العلم، وانتشر الجهل، وغاب العقل، وفسد الحلم، وكثر الفساد، واستشرى بين العباد، ولا أدلَّ على ذلك من أن عددًا من علماء العرب وأساتذتهم حينما غادروا بلادهم المنكوبة، ولجؤوا إلى مواطن العلم عند الغرب، ظهر نبوغهم، وتجلَّت مهارتهم، ولاح للعالم نفعهم وعلمهم، ولو انصلح حال بلادنا، واستقامت فيها أمورها، لعادت إلى سابق منزلتها، وأكَّدت للعالم سيادتها، فهذا هو الفارق بين الغرب والشرق، ولا يحتاج التفوُّق عليهم غير بعض الإصلاح الداخلي وليس مسير ملايين السنين كما يزعم الجاهلون.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى