الجُرحُ النَديُّ.. يوم الأرض
فايز حميدي| شاعر فلسطيني مغترب
-١-
يا رَوابيَّ القُدس
يا كُلَّ البِلاد
يا زهرةً مُلقاة في بساتينِ الرَّدى
وحقولاً تَستعصي على الحَصادِ
وكفاً عاريةً تُنازلُ النصْلَّ ..
يا حبقاً وَأغنيات وَربيعاً لا يَشيخُ
وَعودة الرّوح الشَريدة وَاكتِمال القَصيدة
النِسيانُ خيانةً
يا صَاحبةَ الحُضور الآسر
بشمسِها
وقمحِها
وسهولِها
والنَّشيد
ماذا يتبقَّى من السؤدةِ وأديم الأرض يا أبناء الضَّاد في زمن التَّشريد والتَّغريب والتَّطبيع والنّجمة السُّوداء^…؟!
أمسكْ بيديَّ أيُّها الليلُ ..!
أمشي مُتعثّر الخُطى ونبضي مُجهدُ !!
وَأحلامُنا واحةٌ جرداءُ
وَخيولُنا خَرساءُ !!
ماذا يَتبقَّى من الكبرياءِ ، إذا ما النزعُ شقَّ الصَّدرُ والجرحُ غائرٌ في الجبينِ ؟!
ماذا يَتبقَّى من المَرعى والرُّعاة إذا ما الجَدبُ هَزم النَّهر ؟!
ماذا يَتبقَّى من السَّناءِ إذا ما اختنقَ الضّوء وتفرَّق الأبناءَ ؟!
يا قدس يا سيدة الأكوان
في هدأةِ الليلِ ، أرنو صامتاً حزيناً
فَضاؤنا حَسيرٌ وَسماؤنا خفيضةٌ ..
وقُوَّادٌ أقزامُ …
لأبناءَ أُمّي أمدُّ يديَّ بنبضٍ وَجل
فتلامسُ راحتيَّ بيداءَ العَدم !!
أقتفي خطو ذَاكرتي ، وأذرفُ حُلماً
فتتقاذفني خَرائطُ الفَقد وزنازينُ الكَمد !!
يا ابنةَ التَّاريخ أمويَّة الهَوى
يا حكمةَ المُتبصر وَزهدَ العَابد
خُذي قَلبي يا كنانةُ الله*
أصيصاً ليَاسمينكِ …
فَعروش الطُغاة لا بُدَّ زَائل
يا ابنة تسعةَ آلافِ عامٍ وَعام
-٢-
يَا ابنةَ قاسيونَ يا دِمشق*
يا غُرةَ النَّهار وَسخاء النَّدى !!
يا رائحةَ البُرتقال واليَاسمين والخُزامى
يا ثرَّة الوقعِ ، لك التَّاريخ وَجهاً
وعلى شَفتيكِ يَضيءُ الكلامُ
يا زهرةَ اللوتس المُتقدة كالنيزكِ
أبديَّة الأضطرامِ
يا جَسداً يَتفتَّحُ بالحُلمِ ويستنطقُ الفضاءَ
في دَاخلي تمزّقٌ ولجاجةُ البَاغي
ولا أُجيدُ تَدجينَ الغُربةِ !!
لُغتي مخنوقةٌ ، وسماؤكِ مُتفجرةٌ
وأنتِ تتكئينَ على حُزنك الأبديُّ
وَتتدحرَجينَ من خريفٍ الى خريفِ
مُنهكةً
جَائعةً
جَامحةً
مَذهولةً
غُيومٌ جَريحةٌ
تُضاجعكِ زَوبعةُ الفِتنةِ
وَعينانِ من غُبارٍ وفراغٌ ذَليلا
واحتضارُ الماء والأجنحة !!
وَجهكِ يدُ الوهمِ البعيد
وعيناكِ تحت حجرِ النَّهار الرَّمادي
احترقَ التَّاريخُ في ثوبكِ
وطريقكِ معبدٌ بالخرائطِ المُمزقةِ
وعلى وجنتيكِ بقعٌ من سماءٍ قتيلةٍ !!
تاريخُنا ذاكرةٌ يَثقبها الرُّعب
وأنا يا ابنة قاسيونَ
تحتَ شجرةِ يأسي أتفيأُ
كغيمة تهيم عبثا في سماء الربيع هَاجرَ مِنها الأمل
ما أكثرَ الدَّم في ذَاكرتي والحُطام !!
ما اكثرَ الوجوهُ التي تتيبَّسُ تحت ضلالِ الجَسد الرَّخو !!
يا زيتونةً تعشقُ صمتَ الجُّرح
لو أنّي أعرفُ كيفَ أغيّرُ الآجالَ لِفعلت !!
لو أني أعرفُ كيفَ أخرجُ من جلدي واسمي لفعلت !!!
-٣-
يا ابنة قاسيونَ يا دِمَشق
الموت يراوغني
أصرخُ والضُّحى يَحترق والوَجه شَريد
أستصرخ الضّوء النّحيل والدَّمع الثّقيل والسكون الشّقي
والصّمت الصّارخ في وهج النور
لتمطر الذاكرة مرّة أخرى :
الزّمان والمكان وشعاع الفجر ..
أصرخ كي يصير مذاق الخبز أحلى ، لحظة انعتاق !!
أصرخُ كي أخلقَ وجهاً للرَّفضِ
وأغمدُ رُمحي في سرطانِ الصَّمت
وأغسلُ الضوءَ
لغةً في دَمي وأغَاني وَشقائق النُّعمان
يا وطنَ الجُّرح يا وَطني
القوادونَ يُقامرون بالنردِ على دمكَ
في عصرِ الجُذام وفساد الرُّوح
ويباسُ الأحشَّاء والضلوع !!
يا رياحَ الفَجيعة والضياع
إلى متى تَقودي خُطانا ؟!!
يا شامَة الدُّنيا ماؤك القراحُ
غارَ في الأرضِ
وعلى وجنتيكِ استوى ظلُّ اليبابِ
والماءُ الأجاجُ
ومغارةُ الليلِ
والجُّرح النّدي !!
-٤-
يا نجمةً قريبةً في سماءٍ مُعتمة
يا زمنَ الولادة ، وَذاكرتنا الوَليدة
وأنتِ تَسكنين في الأزهارِ والحجارةِ
هو الزَّمن التَّراجيديُّ : الموتُ والولادةُ
يا كوكباً من ذُرى قاسيونَ تتفيَّأ ظلَّ الحُلم
وتقرأُ للماءِ كتابَ النَّار وَحروفهُ المُقدَّسةُ
بَدِّدي الضََّبابَ والغُبارَ عن رؤاكِ
كي يَنهض العنقاءُ من الرَّماد
أخضراً أبداً كَشُجيراتِ الغارِ
ففي أعمَاقُنا دويٌّ مُجلجلٌ لا يَنامُ !!
دُقي يا كِنانةَ اللهِ على بابِ القيامة
لنشهدَ زمنَ الوِلادةِ من مُحيطِ الشَّمس إلى خَليجها ؟؟!
لنشهد تَوالدَ شُموساً وَأقماراً
وفُرساناً من عَنبرِ ؟!!
محبتي
^النجمة السوداء : نجمة يه وذا السداسية .
^يقصد بها روح مدينة دمشق الأبية وتاريخها الوضاء ..
^كنانة الله : من أسماء مدينة دمشق في التاريخ …
……………
( القدس الموحدة عاصمة فلسطين الأبدية )