هل ماتت صفقة القرن؟
د. مصطفى البرغوثي | فلسطين
نشأ، بعد سقوط الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب اعتقادٌ بأنه حمل معه في رحيله مشروع “صفقة القرن” التي كان هدفها المركزي تصفية القضية الفلسطينية، وتكريس منظومة الأبرتهايد الإسرائيلية، عبر التطبيع مع المحيط العربي على حساب الشعب الفلسطيني، غير أن ذلك الاعتقاد يصطدم بثلاث حقائق :-
أولاً ،إن صفقة القرن لم تكن في الأصل سوى مشروع إسرائيلي مغلف بغلاف أمريكي صاغه اليمين الإسرائيلي المتشدد، بقيادة نتنياهو، وبمشاركة رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي، نفتالي بينيت. وإذا كان ترامب ذهب، فإن اليمين العنصري الإسرائيلي ما زال يحكم، وينفذ على أرض الواقع عناصر “صفقة القرن”، عبر التوسع الاستعماري الاستيطاني، ويدير الظهر لأي عملية سياسية، ويحصر العلاقة بالسلطة الفلسطينية بالتنسيق الأمني والإقتصادي. والشاهد أن الحركة الصهيونية، عبر حكوماتها المتعاقبة، أرسلت، وما زالت ترسل، رسالة واضحة النوايا بأنه لا مكان في قاموسها لحل وسط مع الفلسطينيين، وأن قوانينها وإجراءاتها هدفها تنفيذ التهويد والضم. أما السلام الإقتصادي المزعوم فليس سوى ستار رقيق، لا يخدع أحداً، لتوطيد منظومة الأبرتهايد العنصرية.
ثانياً ،عملية التطبيع، وهي ركن أساسي من أركان صفقة القرن، تتواصل على قدم وساق، بل تتحول إلى ما يشبه تحالفا عسكريا وأمنيا بين حكومات عربية وإسرائيل، مع تجاهل مطلق للقضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني. والمفارقة أن لقاءات التطبيع تجري في ظل انفتاح أفق عريض، وفرصة كبيرة للمطالبة بفرض العقوبات والمقاطعة على نظام الإحتلال والأبارتهايد الإسرائيلي، مع تصاعد الانتقادات الدولية لازدواجية المعايير، وشدة النفاق، عند المقارنة بين ما اتخذ من آلاف العقوبات ضد روسيا، مقابل صفر عقوبات لإسرائيل.
ثالثاً ،لم تعترض إدارة الرئيس بايدن الأميركية، على عنصر التطبيع في صفقة القرن، بل تبنته بالكامل، وبعد مرور خمسة عشر شهراً على توليها السلطة في البيت الأبيض، فإنها لم تنفذ وعودها المتواضعة بإعادة فتح القنصلية الأميركية في القدس، أو السماح بفتح الممثلية الفلسطينية في واشنطن، وكل ما تقدمه هو كلام إنشائي حول “حل الدولتين” من دون أدنى استعداد لممارسة أي عقوبات ضد إسرائيل لوقف التوسع الاستيطاني الخطير. وهي تظهر من خلال تبنيها لعملية التطبيع، كما جرى في اجتماع النقب، أنها تواصل نهج إدارة ترامب، في تطبيق صفقة القرن، وإن بوتيرة أكثر هدوءاً.
والاستنتاج الرئيس من كل ذلك، أن مخاطر صفقة القرن، وتطبيقاتها ما زالت قائمة، بل ربما أصبحت أكبر، بسبب التراخي عن مواجهتها، الناجم عن إعتقاد خاطيء باختفائها، أو بسبب التضليل الناتج عن وعود واهية “بعملية سلام” لن تحدث، ومفاوضات لن تجري، وكأن الهدف هو تدجين الجانب الفلسطيني ليقبل تطبيق “صفقة القرن” كأمر واقع.
وخطورة “صفقة القرن” تكمن كذلك، في أنها تجسد إنتقال الحركة الصهيونية إلى المرحلة الثالثة في مشروعها، إذ كان هدف المرحلة الأولى، من نهاية القرن التاسع عشر حتى عام 1948، تأسيس الوجود الصهيوني في فلسطين بالاستيطان الكولونيالي، وتوسيعه بالهجرة اليهودية حتى تنفيذ النكبة وإعلان قيام إسرائيل.
أما المرحلة الثانية، التي بدأت عام ،1967 و ركزت على استكمال احتلال باقي أراضي فلسطين وتكرار نموذج التوسع الاستعماري الاستيطاني في القدس والضفة الغربية والجولان السوري المحتل، مع فصل غزة عن الضفة الغربية لإبطال تأثير التحدي الديموغرافي.
أما المرحلة الثالثة، فهدفها تصفية كل مكونات القضية الفلسطينية، بدءاً بحق العودة، وحق الفلسطينيين في القدس، وحرمانهم من حق تقرير المصير، مع العمل على ترحيل تدريجي لأكبر عدد منهم، وتنفيذ تطبيق تدريجي للتطهير العرقي في مناطق واسعة من الضفة الغربية.
وينطلق مخطط “الصفقة” من اعتبار أن الواقع القائم الذي أنشأته إسرائيل بقوة الاحتلال، والسلاح هو الأساس لرسم معالم المستقبل وخرائط الحدود، والحقوق وينفي، بضربة واحدة كل الاتفاقيات السابقة، و القوانين والقرارات الدولية.
ولا يمكن التصدي لصفقة القرن دون فهم محتواها ومكوناتها، وأهدافها، ولا يتسع هذا المقال لشرح تلك المكونات، ومن رغب بالاطلاع على تفاصيلها يمكنه العودة إلى كتاب صاحب المقال “خدعة القرن أبعادها واستراتيجية مواجهتها” (مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت،2020، ودار الناشر، رام الله ).
غير أن الواجب يقتضي الإشارة، بشكل خاص، إلى أن هذه “الصفقة” تشمل أكثر من تصفية القضية والحقوق الفلسطينية، وتكريس نظام الأبرتهايد في فلسطين، بل تمتد إلى محاولة فرض الهيمنة الإسرائيلية إقتصادياً، وعسكرياً، وتكنولوجياً وأمنياً على المحيطين العربي والاقليمي. والجسر لذلك هو إتفاقيات التطبيع مع حكومات عربية، ومحاولة فرض تعاون (أو تحالف) أمني شرق أوسطي مع إسرائيل. ومثلما أثبتت عمليات المقاومة الفلسطينية فشل إسرائيل الأمني والاستخباراتي بما يجعلها عاجزة عن أن تحمي غيرها، قبل أن تحمي نفسها، فإن مصلحة الشعوب العربية، تتطلب أن تحمي حكوماتها نفسها من الأطماع الإسرائيلية، بدل التطبيع معها، وأن تستجيب لمشاعر شعوبها المتضامنة قطعاً مع الشعب الفلسطيني ونضاله العادل.
لم تمت صفقة القرن بعد، على الرغم من أنها رُفضت بشكل شامل من كل قوى الشعب الفلسطيني ومكوناته. وبالتالي ما زالت الحاجة للنضال ضدها قائمة، كما الحاجة للتحذير والتوعية من مخاطر التطبيع الذي يمثل أهم أسسها و أدواتها.