اغتيال مؤسسات القدس باسم الأمن الإسرائيلي!

المحامي إبراهيم شعبان
دأبت سلطات الإحتلال الإسرائيلي منذ ضمها للقدس العربية، على إغلاق المؤسسات الفلسطينية العاملة في القدس العربية تحت ذريعة الأمن الإسرائيلي. وتفاوت هذا الإغلاق المقيت والذي يحجب خدمات حيوية تقدمها هذه المؤسسات لفلسطينيي القدس لمدد زمنية مختلفة. وكان آخرها تجديد هذا الإغلاق الظالم وغير الشرعي لأكثر من عشرين مؤسسة اجتماعية أهمها جمعية الدراسات العربية والتي كانت تعرف خطئا ببيت الشرق.
تزايدت وتيرة هذا الإغلاق بعد لعنة أوسلو ومشتقاتها، ففي هذا الوقت من كل عام، يتم تجديد الإغلاق لأكثر من عشرين مؤسسة مقدسية فلسطينية عربية بشكل تلقائي من وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي، رغم أن وزير خارجية إسرائيل وجه خطابا لوزير خارجية النرويج آنذاك التزم فيها بعدم المساس بمؤسسات القدس المتعاطفة مع منظمة التحرير الفلسطينية بل تمكينها من تقديم الخدمات الضرورية للشعب المقدسي الفلسطيني العربي. ولكنه لحس تعهده ونقضه في أول فرصة وأيدته في ذلك المحكمة التي أسموها ظلما وزورا بالعليا. ولم تنج مؤسسة مقدسية من الإغلاق الإسرائيلي بحجة الأمن الإسرائيلي حتى لوكان منقطع الصلة بأمنهم المزعوم كحفل موسيقي أو حفل أدبي أو نشاط ثقافي أو احتفاء بنجاح طلبة التوجيهية أو تكريم مدرسات ومدرسين.
وقد اعتقد البعض أن أوسلو التي حملت اعترافا متبادلا منقوصا، ستجعل الإسرائيين مرنين وليبراليين تجاه مؤسسات القدس، فإذا بالعكس يحدث فهاهم يغلقون عشرات المؤسسات المقدسية ويغلقون مقراتها وحساباتها وخدماتها. الغريب والمحزن أن أوسلو اعترف بالدولة الإسرائيلية وبالمقابل اعترفت إسرائيل بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي للشعب الفلسطيني. ورغم عدم عدالة أو تكافؤ هذا الأمر، إلا أن إسرائيل ممثلة بمجلسها التشريعي المسمى ” كنيست ” ألغت الوجود القانوني للمؤسسات المقدسية عبر سنها قانون في عام 1996 يحظر أتصالها مع السلطة الفلسطينية في خطوة تآمرية تناقض حسن النية المفترض والحاصل في أوسلو وهو مؤشر لسوء النية الإسرائيلي. وهو أمر ليس بالغريب على نظام يرفض الإعتراف بالمواثيق الدولية واتفاقيات جنيف الأربع وبروتوكوليها ولا يلتزم بالقانون الدولي إلا إذا كان في ذلك الأمر مصلحة مؤكدة له.
وهكذا قام بيرس المناور بلحس ونقض التزامه مع وزير خارجية النرويج، وكنيست إسرائيل سن تشريعا يناقض التزاماته تجاه منظمة التحرير الفلسطينية بموجب اتفاقية أوسلو. فلم تكد تجف مداد إتفاقية أوسلو حتى نقضها الحاكم الإسرائيلي. وهكذا أخلوا القدس العربية من مؤسساتها ومن خدماتها بعد أن ضاق صدرهم من خدماتها المدنية والإجتماعية البسيطة. وسأتخذ جمعية الدراسات العربية نموذجا مثالا دراسيا على التعنت الإسرائيلي وفحص حججه الأمنية المزعومة والمكذوبة.
جمعية الدراسات العربية تأسست في عام 1980 كجمعية علمية ثقافية اجتماعية تاريخية تربوية تعنى بقضايا الحضارة العربية والقضايا العربية والدولية. وكان لها مجلس أمناء من نخب هذا الوطن، وهيئة إدارية، وقد راسها المرحوم فيصل الحسيني إلى حين وفاته.
تميزت جمعية الدراسات العربية بغزارة مراكزها وفروعها التي تنوعت وتعددت في اهتماماتها ما بين الأراضي والخرائط والسياحة والطفولة والتخطيط وتأهيل الأسرى والشباب وحقوق الإنسان والإستيطان والحاسوب، وكانت تشكل ثقلا ومحورا ثقافيا هاما وبخاصة في أنشطتها التي ما لبثت أن تطورت سياسيا. وهو أمر شكل كابوسا للسلطة الإسرائيلية المحتلة.
وقد ضاقت السلطات الإسرائيلية ذرعا بوجود الجمعية، لذا ما فتئت تضيق عليها أنشطتها إلى أن أغلقتها في عام 1988 إلى عام 1992. وعقب وفاة المؤسس ورئيس الجمعية استغلت السلطات الإسرائيلية هذا الحدث الأليم بإغلاق الجمعية لستة اشهر ، وما تلبث أن تعيد تجديد الإغلاق لمدة ستة أشهر جديدة. ولها على هذه الحال أكثر من عشرين سنة تمارس هذه الخطوة غير الشرعية والمقيتة بأسلوب بارد روتيني تلقائي دون أدنى دراسة أو بحث أو تمحيص. وهذا أمر ينطبق على غير جمعية الدراسات العربية من مؤسسات مقدسية فلسطينية كالغرفة التجارية والمركز الصحي العربي ومؤسسة القدس للتنمية. وهي تكتفي بالإغلاق المؤقت المستمر دون اتخاذ خطوة الحل للجمعية أو المؤسسة اي الشخص القانوني، كوسيلة للضحك على الذقون. فمثلا هي تبقي جمعية الدراسات العربية موجودة قانونيا وفي نفس الوقت أي عمليا مغلقة لأكثر من عقدين. مكر ودهاء لا يضاهى.
تتبع السلطات الإسرائيلية نهج غوبلز في الكذب المتواصل بشأن المؤسسات المقدسية، وتبث أخبارا ملفقة مع أنها عقدت اتفاقا مع منظمة التحرير الفلسطينية وعليها أن تحترم هذا الإتفاق، لا أن تجرم وتغلق أي نشاط فلسطيني مقدسي. فهي دائما وأبدا تكيل الإتهامات للمؤسسات المقدسية بصلات مع السلطة أو مع المنظمة وكأن ذلك الأمر جريمة, وكأنها أي السلطات الإسرائيلية لا تتعامل لا مع هذه ولا مع تلك. فهي مسموح لها بالتعامل أما المؤسسة المقدسية فمحظور عليها هذا النشاط. وكأن الإسرائيليين يتخيلون أن المقدسي الفلسطيني يجب أن يخلع جلده لممارسة أي نشاط في القدس حتى يكون مسموحا. ويبدو أن الإسرائيليين يغطون في سبات عميق ويحلمون بأن المقدسي الفلسطيني سيتخلى عن ثقافته ودينه وحضارته ويغدو مسخا إسرائيليا. ولم يتعظ الإسرائيليون مما حدث مع فلسطينيي عرب الداخل طيلة ثلاثة عقود ونيف.
وتدليلا على زيف الحجج الإسرائيلية بشأن المؤسسات المقدسية والحجج الأمنية لإغلاقها المستمر، نسوق مثال مكتبة جمعية الدراسات العربية. فهذه المكتبة التي تحتوي عشرات آلاف الكتب والمراجع والدوريات والمخطوطات مغلقة منذ عام 2001 وإلى يومنا هذا. فهل مكتبة علمية ثقافية تتصل بالأمن بأية صلة، وبخاصة أننا في زمن الحاسوب وموسوعاته. هل يعقل أن تغلق مكتبة بما تحتويه من كتب وموسوعات ومخطوطات وببلوغرافيا وخرائط أكثر من عشرين عاما؟ هل يعقل أن تمنع إدارة جمعية الدراسات العربية من حتى إزالة الغبار عن محتوياتها، هل يعقل أن لا يتم العناية بموجوداتها بين فترة وأخرى، هل يعقل أن لا يتم تهويتها بسبب الرطوبة والعفن في جدرانها، وهل يعقل أن لا يتم فتحها – وليس لها مثيل – للباحثين والدارسين والمثقفين وهل يعقل باسم الأمن الإسرائيلي أن تبقى مغلقة مكتبة مقدسية فلسطينية علمية ثرية. وهل يجوز أن تبقى المكتبة مغلقة بذريعة أمنية سخيفة، ألا بئس العدالة الإسرائيلية . عن أية ذريعة أمنية يتحدثون ويزعمون! وقد بلغت الوقاحة الإسرائيلية حدا لا يطاق في هذا الموضوع بان سمحوا لجمعية الدراسات العربية المقدسية بنقل كتب المكتبة خارج القدس ولم يسمحوا بأي دخول أو ترميم أو تنظيف لفناء المكتبة كحطو لتهويد المدينة.
قد يقول قائل لم صمتكم أيها المقدسيون الفلسطينيون، وأجيب أننا غير صامتين على الإطلاق، فالممثليات الأجنبية تعرف ذلك وموضوعة في الصورة، والإتحاد الأوروبي يعلم ذلك، والقنصلية الأمريكية ودبلوماسيوها يعلمون ذلك، والأمم المتحدة تعلم ذلك. لكن الجميع صامت، فلا أحد يجرؤ على الحديث مع الصهيوني. ونحن نقول انكم أيها الدبلوماسيون لا تتحدثون بشان القدس بمجملها بل بتفصيل واحد من تفاصيلها فقوموا بواجبكم التي اشبعتمونا بها تنظيرا.
ويبدو أن هناك خلطا واضحا بين بيت الشرق وجمعية الدراسات العربية. فبينما جمعية الدراسات العربية جسم قانوني مسجل له هيئة عامة وهيئة إدارية وأعضاء ورئيس وذمة مالية، نرى أن بيت الشرق يفتقد لهذه المقومات مجتمعة أو منفردة. فلا يوجد جمعية ولا شركة ولا منظمة مسجلة اسمها بيت الشرق بل هي توارث لاسم فندقي وهي نوع من الأدبيات. واختلط الأمران ( الجمعية وبيت الشرق ) نتيجة توحد رئيسهما، وهكذا كان وبعد وفاته بقيت الجمعية وتوقف بيت الشرق عبر إغلاقه أيضا.
بعد احتلال الجيش الإسرائيلي للقدس العربية في حزيران من عام 1967، قامت السلطات الإسرائيلية بضم القدس لها. وقررت الجمعية العامة للأمم المتحدة وتلاها مجلس الأمن ببطلان الضم الإسرائيلي عبر قرارات عديدة ومتتابعة . واعتبرا جميع ألإجراءات التشريعية والإدارية والأعمال التي اتخذتها إسرائيل في القدس المحتلة باطلة ولاغية ولا يمكن أن تغير الوضع القانوني للمدينة. ورغم ضعف الجزاء الدولي إلا أنها يجب أن تجبر إسرائيل على فتح المؤسسات المقدسية الفلسطينية في بيت المقدس وفي مقدمتها جمعية الدراسات العربية.
في هذا الوقت بالذات وضمن ما يحدث في العالم، يجب إعادة وضع هذا الملف على جدول الأعمال الأمريكي والأوروبي والفلسطيني والمطالبة بحله، وبخاصة أنه مطلب إنساني عادل وصديقك الحق هو الصديق الذي يقف إلى جانبك في الشدائد ولولا الأمل لانفطر الفؤاد!!!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى