المنع سبيل المنح.. دروس ربانية من المدرسة الرمضانية (3)
رضا راشد| الأزهر الشريف
يعيش المرء في هذه الحياة الدنيا وله من عقله ما يحثه على اكتساب المعالي من الأهداف الكبرى والغايات العليا التي تعقبه لذة روحية وسعادة نفسية، وتجعله في دنيا الناس عظيما من العظماء؛ بما حقق من خير للبشرية، وتسطر اسمه في كتاب التاريخ بأحرف من نور.
ولكن هذه الغايات ليست دانية القطوف ولا الطريق إليها ليس معبدا، وإلا لأصبح كل الناس عظماء؛ إذ:
لولا المشقة ساد الناس كلهم
بل تقف دونها عقبات جسام تتمثل في هذه الشهوات المسلطة على النفس سلطان آمرا وقوة طاغية آسرة؛ إذ جعلت هذه الشهوات جبلةً في النفس وغريزةً فيها لتكون وسيلتها إلى البقاء في الحياة.
وهذه الشهوات قد تكون غذاء ووسيلة حياة وقد تكون سما مميتا ..فإن اقتصر بها على حد الضرورة كانت غذاء وإن زيد منها كانت داء وهلاكا .
ولكن أنى لامرئ أن يقتصر منها على حد الضرورة، وفي نفسه مغناطيس يجذبها إليها؟!
إن المرء يقع مما يطمح إليه بعقله بين شقي الرحا : إما أن يستسلم لسلطان شهواته فإذا هو واقع في أسرها، مستعبد لها لا يملك إلا أن يلبي أوامرها لا يبالي من أي سبيل كان :أحلالا كان أم حراما؟ ..وساعتئذ سيسعد بذلك لحظة، لكنها ستعقبه حسراتٍ، يعيش بسببها صغيرا ويموت بين الناس حقيرا:
ومن لا يحب صعود الحبال
يعش أبد الدهر بين الحفر
=وإما أن تقوى إرادته على الوصول إلى هدفه فيجعل من عزمه معولا يهوى به على صخور الشهوات التى تحول بينه وبين هدفه،فيسعد في دنياه ولكن على حساب تعب بدنه.
وإذا كانت النفوس كبارا
تعبت في مرادها الأجساد
هما سبيلان ما لهما من ثالث ولا سبيل للجمع بينهما؛ بل إما هذا وإما ذاك ..ولكل عاقبة: فعقبى التغلب على شهوات النفس الواقفة له بالمرصاد دون أهدافه ، نجاح في تحقيق الاهداف العليا والغايات الكبرى،فسعادة غامرة ينتشى لها القلب والنفس والعقل والروح = وعاقبة الخضوع لشهوات النفس لذة عابرة سرعان ما تعقب حسرة لا تقلع تغذوها مرارة الإخفاق والفشل .
ليتبين من ذلك أن لا سبيل للنجاح إلا بعزيمة قوية ينعتق بها الإنسان من سلطان الشهوات لنجد أنفسنا أمام قانون النجاح الوحيد في هذه الدنيا والذي مهما بحثت فلن تجد له بدلا؛ وهو:
أنه لا سبيل للمنح إلا بالمنع.. لن يُمنحَ الإنسانُ الغاياتِ العليا والدرجاتِ الرفيعة إلا بأن يمنع نفسه من كثير من شهواتها.
وانظر إلى ما حولك في دنيا الناس وميادين تفوقهم تدرك صدق ما أقول ..فهل تفوق المتفوقون ونبغ العظماء في أي مجال: جدا كان أم هزلا، إلا بالاقتصار على قليل من طعام وشراب، ثم بليال طويلة يبيتون فيها مسهدين قد تجافت جنوبهم عن المضاجع وصولا لأهدافهم وبلوغا لغاياتهم .
هذه الحقيقة الكبرى – التى لا يمتري فيها اثنان ولا تنتطح فيها عنزتان- يدلنا عليها الصيام كما يبين عنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه المعروف:
“والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك ،يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي ،الصيام لي وأنا أجزي به ” .
فتأمل -يا رعاك الله- بلاغة النبوة في ترتيب الجمل الثلاث، وكيف توسطت الجملة الدالة على تضحية الصائم المتمثلة في تركه طعامه وشرابه وشهوته ابتغاء مرضاة الله-الجمل الثلاث؛ وكأنها واسطة العقد أو بيت القصيد؛ لنستدل بهذا الموقع الفريد على أن ما اكتسبه الصائم من هاتين الخاصتين:(خوف فمه اطيب عند الله من ريح المسك ، وأن الصيام لله وهو سبحانه يجزى به ) لم ينله مجانا، بل كان ثمنه غاليا وهو ترك الطعام والشراب والشهوة ابتغاء مرضاة الله.
وهكذا تعلمنا مدرسة الصيام أن المرء لن ينال العلا سهلا، بل لا بد من تضحية وجهاد وبذل للغالي والنفيس وصولا إليه، وأنه حين يبذل ما يبذل بلوغا للعلا لن يضيع ما أنفقه سدى ، بل ستكون الثمرة أفضل مما بذل كما كان ما ناله الصائم من ثواب أفضل كثيرا مما ترك من شهوات.
فاللهم هب لنا من لدنك رشدا نميز به بين ما يجب أن نتركه وما يجب أن نطلبه
وبالله التوفيق .