الجمال رسالة سامية

محمد أسامة | أمريكا الشمالية

 الجمال هو تلك الغاية السامية، وهذه البُغية العالية، التي تصير تاجًا لإبداع صاحبه، وعنوانًا لبديع آدائه، لاسيَّما حينما يثير في شعور النفس حاسة الجمال، ويوقظ فيها غاية الإبداع، سواء كانت تلك الرسالة من وحي الطبيعة، أو من عمل الإنسان، أو كانت ظاهرة تراها العيون، أو باطنة تدركها القلوب وتلمسها الأحاسيس.

 إدراك غاية الجمال هو نجاح الإنسان في تجربته، وأعلى المراتب في سبيل عمله، إذ أن الجمال لا يتحقَّق إلا إذا توفرت في ذلك العمل جميع أركانه، وكل شروطه وأهدافه، فوجد موضعه في النفس، وأعملَ أثره في العين، وغرس في القلب شعور الدهشة، وأذاقها من مذاق الإعجاب واللذة، ولا يكون الجمال جمالًا حقيقيًّا إلا إذا نجح في تحقيق الإثارة لكل من شاهده، ونجح في تصوير الفكرة لكل من لاحظه، فأحيا العاطفة الجياشة، وبثُّ الروح في تلك الأحاسيس الجامدة، وجسَّد الخيال تجسيدًا واقعيًّا يملك العقل ويستنشط الجوارح.

 ومن أراد أن يلمس الجمال فله أن ينظر في مظاهر الطبيعة الخلابة، فينظر إلى السماء وما في خَلْقها من إبداع، ونظر إلى الحدائق الغنائه وما تبعثه من سرور وبهجة، وما في زهورها ووأشجارها من غناء وبسمة، أو ربما انصرف عنها إلى الصحراء التي خلت من كل مظاهر الحياة، ومع هذا تلمس في صفائها وخلوِّها ونقاء جوِّها لونًا من ألوان الجمال، تنبعث فيه عدَّة رسائل متولِّدة من ذلك العناق بين مظاهر الطبيعة وأصدائها، وذلك الحوار الدافئ بين عناصرها، التي يسمعها القلب بآذانه، فتوحي له أفكارًا عديدة، وآفاقًا شاسعة، أو ربَّما نظر شخص إلى الليل والنهار، وراقب السحب والنجوم، وانتبه للبر والبحر، وعانق بصره الشمس والقمر، وخالط روحه الإصباح والإظلام، فأبصر إبداع الخالق في خلقه، وقرأ في ذلك جمالَ الله في صنعه، فكلها عناصر تبعث في خيوطها بواعث السرور والجمال.

 ومن أراد أن يُدرك الجمال فليتحرَّاه في حسن الخلق، وصفاء القلب والروح، ففي خلق الإنسان الحسن جمالٌ يسترعي الانتباه، ويجذب الأحاسيس، لأن الإنسانَ الخلوقَ دائمًا يجذب أصحابه، ويعجب أقرانه، فتنغرس في نفوسهم محبَّته، وتعلو في دواخلهم منزلته فيكون من الرابحين.

 والجمال بمعانيه وآياته ليس محصورًا في الجانب الحسِّي، وليس قاصرًا على الظاهر المادي، بل في جمال الجوهر ما بفوق المظهرَ لذَّة، ويعلو مكانة روعةً، إذ أن الجمال الداخلي والمعنوي، يُولد مستترًا في الأعماق، متواريًا عن الأنظار، ثم تظهر ملامحه، وتنكشف على صاحبه آماراته، فتظهر في أقواله وأفعاله، وتبدو جليَّةً في أفكاره وصفاته، فهو أصدق معنًى، وأقرب وصلًا، فالجمال الظاهري في بعض الأحيان يفنى، وفي بعض الحالات يخدع، ولا يُستتم جمال المظهر، إلا إذا اتفقت معه أسباب جمال الجوهر.

 والجمال كذلك يكون في الإنسان الذي يتأنَّق في ملبسه، ويتجمَّل في مظهره، ويتأدَّب في مشربه ومأكله، ويعني بتحسين خلقه، ويجمل صفاته فتظهر على طبائعه فلا يتكلَّم إلا عن علم، ولا ينطق إلا عن فهم، في كلامه نغم، وفي صمته حِكَم.

 وجمال المرأة جمال يُثلج الصدر، ويهيِّج النفس، وينعش القلب، ويلهب العين، فتتحرَّك غريزة الجمال في الإنسان، وتستيقظ فيه المشاعر والأحاسيس وقد خرجت من طي الكتمان، ففي حسنها جمالٌ يسر الناظرين، وهو جمال بعضه في مظهرها، وغالبيَّته في عِفَّتها وداخلها، فإذا نطقت سُمع كلامها، وإذا تكلَّمت أُنصت إلى حديثها، وهو جمال ليس مذمومًا. وليس محرَّمًا ولا ممنوعًا، طالما أنه اتَّسم بمظاهر الحياء، وتحصَّن بمظاهر العفَّة، ولم يتحوَّل إلى سلعةٍ من أجل أغراض شوهاء، ووسيلةٍ من أجل غاية بلهاء، فإنَّ جمال المرأة لا يُستتم إلا إذا صانت حُسنها بعفَّتها، وأكملت جمال مظهرها بجلال حيائها، واتفق جمال المظهر، مع نسيم الجوهر.

 وفي ما يعزفه الملحِّن من ألحان، وينشده من أنغام، جمال يسبي العقل، ويملك القلب، ويأسر النفس، ويهيِّج فيها أحاسيسًا كامنة، وويوقظ بها مشاعرًا كانت خامدة، إذ أنَّ في نغمات الموسيقى ودرجاتها وأوتارها جمالٌ يبعث إلى الأذن رسائل شتى، ومعانيًا ساميةً عميقة.

 وفي ما يخطُّه الشاعر من حرف، وما يكتبه الكاتب من كلمة، جمال يتجسَّد في معانيه، لأنه بسحر بيانه، وحكمة كلامه، يعبِّر عن رسالة سامية، ويجتهد في تحقيق غايةٍ عالية، فيدبِّج كلامه ببيانه، ويزيِّنه برصف حروفِه وعباراته، فيصير بيانه سحرًا يؤثِّر في نفوس سامعيه، فيثير إعجابهم، ويحرِّك دهشتهم، فتبلغ رسالته، ويفهم معناه، ويُعبِّر عن إحساسه، ويفصح عن أغلب أفكاره، وكذلك في الخطابة فن وجمال، وسحر وبهاء، فجمال الخطيب في أن يجوِّدَ كلامه، ويدبِّج عباراته، فيؤثر في نفوس سامعيه، ويقنعهم بأفكاره، ويوجههم بكلماته، فيكون كلامه أوقع، وتصير حجَّته أبلغ.

 وفي تلاوة القرآن جمال، لأن من يتلوه يدني القرآن من سامعيه، ويعبِّر بتلاوته عن معانيه، وكذلك في كافة العلوم النظرية، وكل المعارف التطبيقية، وما اشتملت عليه كل تلك العلوم كالطب والفلسفة واللغة والدين، جمال لا يصيبه نقص، ولا يبلغ وصفه قول، فجمال العلم هو أن يبلغ منتهاه، ويعظم نفعه، وينتشر في كل أرجاء الأرض.

 وما قيل عن الطبيعة والكتابة والعزف يُقال في العماره، فدائمًا ما يقوم المعماري على تقييم معايير الجمال، فيدرس الأحجام، ويحدِّد المساحات، وينظر المناظير، ويعمل على تنسيق الألوان، حتى تنسجم مع بعضها، ونتوافق مع درجاتها، ويبدع في تصميم المداخل والمخارج، ويتفنَّن في ابتكار الأشكال والمظاهر، وكل هذا حتَّى يُثير في الرائي حاسة الإبداع، ويملك قلبه بإحساس الدهشة، فيستطيع من خلال عمارته التي شيَّدها، والأحجار التي رتَّبها، أن يُبَلِّغ رسالته بإحسان، ويتفنَّن في توصيلها بإتقان، وهذا يعني أن الرسالة لا تُشترط أن تكون كلامية، بل يمكن أن تكون حروفها من أحجار تعبِّر بجمالها عن ذاتها، وتبصر في ذراتها بعض معانيها.

 إنَّ الجمال رسالة رسامية، ولا تُستتم حتَّى تُعبر عن معان راقية، وتفصح أعماقه عن أهدافٍ نافعة، فيتَّضح مغزاها، ويتجلَّي سمو هدفها، ولا يصلح جمال المظهر إلا بصلاح الجوهر، ولا يُستتم إلا بصدق رسالته، وإلا صار الجمال طلاءً خدَّاعًا، ووجهًا كاذبًا، وتنميقًا ظاهريًّا لا يعبِّر عن مغزى، ولا يتَّضح من ورائه معنى، فجمال الحرف ليس مقتصرًا على التنميق، وجمال المرأة لا ينبغي أن يكون في التعرِّي، وجمال الموسيقى لا ينحصر حول الإيقاع، فلابد لهذا كله أن يُستتم برسالة يرافقها سموٌّ في المعنى، وارتقاءٌ في الهدف، وجمالٌ في الغاية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى