قراءة في رواية “الجهة السّابعة” للأسير الأديب الفلسطينيّ كميل أبو حنيش
قمر عبد الرحمن| فلسطين
أقرأ كثيرًا.. وأتمعّن بما يملأ مقلتيَّ بفكرةٍ جديدة أو إحساسٍ طازج، الجهة السّابعة كانت هدية لا تُقاس بثمن، فالرّواية التي تُشعرك أنّك إنسانًا آخر بعد الانتهاء منها، هي رواية تستحق الخلود.
وأنت تقرأ للأسير الأديب كميل أبو حنيش، تَشعر أنّه يكتب عنك، وتلامس الأحداث قلبك، كيف لأسيرٍ يسكن في مربعٍ اسمنتي، أن يصف ما نشعر به وهو لا يعرفنا! وتفصلنا مسافة لا بأس بها! حتمًا إنّها الإنسانيّة الرّابط المشترك بين البشر.
يحاول العدو جاهدًا طمس اسم الأسير ورسمه وشعوره وذكرياته ويفشل! وسيفشلون في كلّ مرّة (يحتجزون الجسد نعم) لكن ما يدور بالعقل والرّوح هو نبع الحريّة.
تطرّق كميل في جهته السّابعة إلى نوعٍ من الحبّ شائعٌ جدًّا، لكن لا يجرؤ أحد الحديث عنه، وهو الحبّ الصّامت المميت، قد يكون مميتًا لكنّه نقيٌ كنقاء الثّلج، هذا الحبّ أكاد أجزم ما مِن شخصٍ إلّا وعاشه! ولكن يخشى أن يكشفه لأحد! ليبقى هذا العشق متغلغلًا في أعماقه في لحظات الحاجة.
هذا الحبّ الصّامت يلعب دورًا بارزًا في حياة الإنسان، فقد يأتي بطلُ هذا الحبّ مواسيًا أو مؤنسًا أو عاشقًا مولعًا بك، وقد يأتي ليخلق حياةً كاملة لك، ويتجسّد هذا الحبّ في الحلم والذّاكرة الحارسة له، فالحلم كالرّبيع طاقةٌ وحياة!
يقدم لك كميل ثلاثيّة الحبّ والحلم والموت بأبهى صورة؛ لتعيش اللّحظة.. فاللّحظة الآن هي المقدّسة سواء أكانت فرحًا أو حزنًا. وبعدما تغلق آخر صفحة في الرّواية، تتأمّل هذه الثّلاثيّة الحتميّة (حبٌ وحلمٌ وموت). فلا بدّ من كلّ إنسانٍ المرور على هذه الثّلاثيّة في حياته.
لكن يختلط الأمر على الإنسان الأسير، فربّما يحيا الحبّ قبل الأسر ويجسّده حياةً كاملة في خياله بعد الأسر، وربّما يصطدم بالحبّ أثناء الأسر، وربّما يؤجله لحين التّحرّر -مع أنّ الحبّ يكره التّأجيل- وقد يتداخل شعور الحبّ والحلم في الأسر، ويقف الموت كالشّبح في حياة الأسير يظهر حينًا ويختفي حينًا آخر، ويبقى الأسير هو صاحب القرار إمّا الاستسلام للموت أو مواجهته ببسالة، فهي معركته وحده.
وأنت تقرأ الجهة السّابعة تكتشف عمق الذّاكرة، فالذّاكرة هي الزّمن، والزّمن هو الإنسان بأفكاره وأحلامه وأحزانه، لكن الذّاكرة في السّجن تحوّل اللّحظة لحدث، والحدث لمشهدٍ متكامل، ثمّ يخرج الأسير من أسره مجازًا ويلج في المشهد الذي صنعه ليعيش كلّ لحظةٍ بكافّة تفاصيلها، وهذا يبعث على الشّعور بالحياة الطّبيعيّة والسّكون حتّى ولو كان مؤقتًا!
يا لعظمة أسرانا وهم يحاولون الحياة، يقاومون السّجن بالأحلام والخيالات التي يرسمونها، فالخيال هو صلة الوصل بين الماضي والحاضر، والحاضر والمستقبل، وتغدو هذه الخيالات هي ملاذهم الوحيد الذي يعوضهم قليلًا عن الحياة الحقيقيّة، وربّما يحتفظ بها عقلهم الباطن ليعكسها واقعًا ذات حريّة قريبة.
-يا للفارق الصّارخ بين روايةٍ تستحق وقتك وتركيزك وبين روايةٍ لا تستحق دقائق معدودة- ويا للفارق الصّارخ بين كاتب يملك إصدارًا واحدًا ويعاني من مرض التّعجرف، وبين أسيرٍ روائيّ ومفكّر حقيقيّ ككميل يملك فكرًا وثقافةً وتواضعًا لا نظير له!!
شكرًا كميل.. لأنّك جعلتنا نقدّر قيمة اللّحظة.
شكرًا كميل.. لأنّك اطلعتنا على جهتك السّابعة، واخترت اسمًا لما نشعر به، فمن يقرأ الرّواية يدرك أنّه يملك جهةً سابعة، ولكن يجهل اسمها!
شكرًا كميل.. على عظمة مقاومتك لواقع أسرك، فأنت لا تدري الأثر النّفسي العظيم الذي تُحدثه في نفس القارىء، وكيف لدمعةٍ حارقة أن تلتقي بانحناء ابتسامة أثناء القراءة؟ هو الشّعور بالأمل والألم معًا
شكرًا كميل.. لأنّك اخترت الكتابة سبيلًا لنجاتك من ظلمات الأسر، فكتاباتك نجاةٌ لنا أيضًا من ظلمات النّفس وتقلّباتها.
دار فضاءات للنّشر والتّوزيع 2021