تقنية السيناريو في رواية “الذئاب على الأبواب” للأديب أحمد خلف

أ.د مصطفى لطيف العارف | ناقد وقاص عراقي


لقد اشتغل الروائي الكبير (أحمد خلف) على دعم نصه بهوية سردية بصرية من خلال التعامل مع الكاميرا التي تهدف من وراء ثباتها وحركتها إلى ترجمة قصد محدد وهو بذلك يعمل على وضع نتاجه ضمن مجال بصري تتراجع فيه اللغة لأجل الصورة, كما هو الحال في السينما فاللغة في الشريط السينمائي تكون مجرد ظهير للصورة ,لقد تعرف الروائي (أحمد خلف) على هذا الأسلوب المعاصر- السيناريو- ووعى فاعليته في تجهيز الرواية باليات من شانها أن تعطي للمسرود نكهة خاصة تتفاعل مع فعل القراءة ,وتفتحه أوسع أمام تحركات التأويل , يفتح الروائي مشغل سرد رواية (الذئاب على الأبواب) بدورية سيناريوية تدور حول تهيئة الوضع السردي, وذلك بموضعة الشخوص, وتنضيد وحدات المكان النصي , إن تقديم الرواية وفق قوانين حركة التصوير يضع الرواية وسط مكاشفة سردية تتعامل مع الضروري, وهذا العمل يعد حتمية تتمثل بــحركة الكاميرا في ميلها نحو الضروري تترك جانبا كل ما هو زائد , وبهذا التوصيف تكون الكاميرا وحدة الشعور الفيلمي فهي التي تؤسس الحركة العامة للفيلم وهذه الحركة تتكون من حركة تصوير المنظر, ومن الحركة داخل المنظر وبذلك تؤدي الحركة إلى تغيير التكوين, ويؤدي بنا إلى تغيير التكوين الحركي إلى تغيير الانفعال , فنراه يقول: بعد نظرته تلك نقل عينيه نحو المشهد اليومي الذي يلوح له من بعيد, يرنو بإمعان غير مصدق انثيال الصور على المشهد وتشكيله كان كثير الحلم ودائم التفكير ولم يكن متيقنا من حالته أن تراوده وخواطر لا تنقطع وكثير من الأسماء والإمكان ترد إليه وتحتل مساحات واسعة وقاسية من فكره المحتدم كل شيء ينمو ويكبر بل ويتسع إلى أقصى مداه , وقد يصل إلى التهديد بالقتل وتصفية الجسد في بعض صفحاته وهي كثيرة . يتشكل المشهد السردي في الرواية من لقطتين,لقطة صغيرة جدا تستغرق تفكير في التهديد في القتل ,ولقطة كبيرة تستغرق عملية القتل ,وحركة المشهد تخرج من قوة الصدمة بين هاتين اللقطتين,ففي اللقطة الأولى كانت الحركة واضحة,وهادئة ,وفي وضع معلوم,ولاسيما بعد إعادة أول حركة في هذه اللقطة, وهي(قد يصل إلى التهديد بالقتل) إذ أعيدت هذه الحركة في منتصف اللقطة لتمثل على سهولتها استعمالا سهلا لأسلوب الاسترجاع ,وذلك ليعزز حضور اللقطة ككل بأجوائها,ودلالاتها, وفي هذه اللقطة تبدو الحكاية الشعرية مباشرة من حيث,تواصل الصور وبناؤها, لأن الروائي (أحمد خلف) منتبه في الإفادة من تقنية السيناريو ,وذلك من خلال القصدية التي جاءت بها اللقطة الثانية,وهي تحمل دلالات تملأ الرواية بالحركة إذ إن حركة هذه اللقطة مجهولة,ومرتبكة , وقد تجسدت في المقطع الآتي : إما خصومه فقد كان ينظر إليهم ليس كخصوم شرسين لم يكتفوا بتفجير بيته الذي بناه بتعب العمر كله ولا العائلة التي أصبحت في خبر كان (موت زوجته وابنته الصغيرة) بل واصلوا مطاردتهم له أينما ذهب وأدركوا مستقره.

تمنح هذه الوسيلة السينمائية السيناريو الروائي (أحمد خلف) فرصة التحرر من القيود المكانية, والزمانية في السرد الحكائي التقليدي , إذ يتمكن السارد من خلالها من التنقل بين الأزمنة, والأمكنة بحثا عن الأحداث, والتفصيلات الأكثر أهمية في الرواية , فالسيناريو عملية انتخاب وتوقيت وترتيب لقطات معينة في تسلسل سينمائي- وهي العامل الخلاق الفاصل بإنتاج أي فلم- وان انتقالها من السينما إلى الخطاب الأدبي لن يؤثر- بالضرورة- في أهمية دورها في الخطاب الجديد ,فالسيناريو بهذا المفهوم يمتلك قدرة واسعة على التخييل, وتقديم اللقطات , المؤثرة فنيا لأنه مؤسس على تراكب لقطات تراكبا هدفه أحداث تأثير مباشر ودقيق نتيجة لصدمة صورتين , تعبر كل واحدة منهما عن واقع محدد, وتكون مهمة المشاهد / القارئ اكتشاف, وتأويل نوع العلائقية التي يمكن أن تجمع بين هذين الواقعين, وقد ترك الروائي التأويل على مصراعيه للقارئ/ المشاهد, بمعنى آخر اكتشاف , وتأويل (معنى المعنى) المتولد على حاصل الجمع بين اللقطتين من خلال أعمال الذهن, والتأمل, وإعادة النظر في المزج الصوري بين السيناريو بمختلف أنواعه الزماني, والمكاني, والتعبيري, والاسترجاع الصوري (الفلاش باك) وغيرها من وسائل السيناريو, والمزج الصوري , فكثيرا ما وجدنا الروائي (أحمد خلف) يلجا إلى هذا النوع من التكنيك السينمائي ولاسيما في روايته (الذئاب على الأبواب) التي تشكل السمة الأسلوبية الأكثر بروزا في نصوصه السردية, إذ تمكن من الجمع بين صورتين الأولى يلتقطها من الزمن الماضي قبل الاحتلال الأمريكي صورة الجندي العراقي المتخلف والخائف فنراه يقول: أدركت طبيعة الهمس بين الجنود الآخرين وما يتكلمون عنه, وقد راعني وصول ستة جنود جدد سلم لي أقدمهم في الخدمة كتاب نقلهم إلى وحدتنا المهملة , وطلبت من نائب ضابط محمود ميرزا أن يتخذ الجنود الجدد وضع الاستعداد لاستقبالهم والتعرف عليهم وعلى المهمة التي يحملوها معهم , والأخرى يلتقطها من الزمن الحالي بعد الاحتلال الأمريكي للعراق الجريح ,كما يتجلى ذلك واضحا في استعمال السيناريو المكاني الذي يقوم به على أساس الجمع بين صورتين لمكانين مختلفين في زمن واحد ,فنراه يقول: كانت عزلته التي تعود عليها منذ زمن بعيد تنمو مع مضي الأيام وأي أيام يعني؟ أيام اللصوصية التي خلفها الحاكم المدني بريمر عندما رسم لكل السياسيين العراقيين طريق السرقة بحجة أنها ثروة بلدهم وهو أولى بها وتناهبوها لا يلوي على عزيمتهم في السطو والسرقة شيء أبدا بالمليارات يسرقون يا أيوب افرغوا ميزانية الدولة ولا من رادع لهم أين الوثائق والأسانيد التي تدين من تتهمهم ؟ إذ يتم الاستدلال على قصد المسرود عن طريق تتبع سلوك التصوير فبتغيير سرعة الكاميرا يمكن التعجيل بالحدث والتباطؤ به , وكذلك تتوفر للكاميرا ميزات تمكنها من تبني دور الراوي فهي – فضلا عن عملها أثناء ثابتها – تتمتع في التحكم بتقسيم اللقطات المتحركة بحسب متطلبات وجهة النظر, ومن هذا التحكم تأخذ أهم أوضاعها التي تمكنها من متابعة الروي, فنراه يقول: كانت ليلته الثالثة بعد الخمسين في الشقة المتواضعة ليلة قاحلة وسط العتمة الشاحبة التي فرضها انعدام التيار الكهربائي في الحي كله منذ عشرين يوما وبصورة متقطعة تجعل الناس في ارتباك وحيرة من استخدام التيار أم لا لجا إلى ما اعتاد الناس عليه من تسعينات القرن الماضي إلى الفانوس والشمعة , إن استدارة الكاميرا من نقطة ثابتة من التقنيات السينمائية , وهي بتغلغلها في الرواية المكتوبة تكون قادرة على تشكيل وزن سينمائي لهذه النصوص إلى جانب وزنها الأدبي لذا يحقق لدينا نوع من التوازي بين الفنين, واللقطة الأفقية تشمل حركة آلة التصوير على محورها الأفقي بوضح ثابت, وهنا تقوم آلة التصوير الراوي بمتابعة الحركة بشكل أفقي وهذا ما نجده واضحا في هذه الرواية إذ تحدث الروائي (أحمد خلف) عن الراوي بصورة مستقلة فنراه يقول : إذا أراد الراوي ان يقدم الصبر على عاطفة قلقة فإننا سوف ندرك مدى البؤس والأسى الذي الم به حيث تضاربت الآراء حوله , وإذا أردنا تقديم وصف موجز كاف وشاف سوف نعجز أمام ماخاضه وما اضطر إلى الدخول فيه من تجارب مريرة أحاطت به بعضها بتخطيط من الآخرين وبعضها الآخر بمحض المصادفة ونحن لسنا غافلين عن هذه الطريقة بتقديمه أو وصف حالته وبالتأكيد سوف تكون قصة ناقصة إذا أردنا أن نكون منصفين كما يفعل العديد من الرواة أو هواة سرد الحكايات والقصص , وأخيرا نقول أن أهم ما يميز الروائي احمد خلف في هذه الرواية هي مشاركة الراوي في أن يروي لنا ما عاشه من إحداث ألمت به في ماضيه وحاضره وما يتوقع حدوثه في المستقبل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى