وظائف السرد في قصة مسعود الطحان للكاتب خليل الجيزاوي

د. سيد محمد قطب | أستاذ النقد الأدبي بقسم اللغة العربية كلية الألسن جامعة عين شمس

في قصة مسعود الطحان للكاتب خليل الجيزاوي تأتي الشعرية في إيقاع غنائي يولد من تغيّر أسلوب الحياة ممّا يشعر المتكلم بالفقد المؤلم فيقع فريسة لعالم لا يعرفه نتيجة ضياع عالم يختزنه في ذاكرته لم يعد له وجود، فكأنه شاعر يقف على الأطلال.
يمكن أن نبحث عن ثلاث وظائف في الخطاب السردي هي الوظيفة الشعرية والوظيفة الدرامية والوظيفة الثقافية، تمنح الوظيفة الشعرية النص روحًا غنائية يضرب بها في الجذور البعيدة للإبداع وكأنه يتخذ طابعًا أسطوريًا مُغايرًا للغة الاتصال المألوفة، ويحلّق بها في أفق روحي ليلتقي في سحب البيان مع مشاعر المتلقي، تُشكّل الوظيفة الدرامية عالمًا متخيلا يمكن أن تكون له مرجعية في تجارب المبدع والمتلقي أيضًا؛ لكن المهم هو المصداقية النفسية التي يعايشها المتلقي وهو يرى هذا العالم يشغل فراغ المخيلة؛ ليكون موضوعًا جماليًا للتأمل، تكتشف الوظيفة الثقافية الفجوة التي حاول المبدع أن يحددها في خطابه الاتصالي مُلقيًا الضوء على الظاهر والخفي في سياق اجتماعي متغيّر.

يكتب خليل الجيزاوي في قصته “مسعود الطحان”:
“في رحلة العودة من المدينة البعيدة والقاسية، حيث علوم الشهادة العالية أشاهد الأعمدة الخرسانية، تأكل الحقول الخضراء على طريق أباظة شيئًا فشيئًا، وما تبقى من الأرض الخضراء – خلف الفيلات المزركشة – تم زراعتها بخطوط العنب البناتي، حدائق وبساتين.
من نافذة الميكروباص “التويوتا” على طريق البلد – أباظة – كنت أفتش عن فلاح واحد – من أهل قريتنا – يلبس قميصه المعروق، المنقوش بكفاح الزمن وفلاحة الأرض، يحمل فأسه على كتفه، يشد وسطه بشملته الصوف، لكني أطالع وجوهًا مغسولة، وذقونًا ناعمةً حليقةً، وشعورًا مفروقة، ومدهونة بكريمات لامعة، جماعات جماعات، تتمشى بالجلابيب البيضاء، تشد أنفاس المارلبورو الأحمر، تتهامس، تمضغ العصاري بعيدًا عن خنقة الدور الأسمنتية، حتى تنتهي شهور الإجازة من العمل في بلاد الحجاز.
– مقطع من قصة مسعود الطحان للكاتب خليل الجيزاوي من مجموعة نشيد الخلاص – كتاب مجلة الرافد – الإمارات – حكومة الشارقة – العدد 33 – سبتمبر 2112.

إن المقطع السابق للكاتب خليل الجيزاوي من قصته “مسعود الطحان” قدم لنا ثلاثة وظائف مهمة للغة النثر التي ينتمي إليها الخطاب السردي يمكن أن نحددها فيما يأتي:

أولا: الوظيفة الشعرية للخطاب السردي:
– يجد القارئ في بعض الأحيان نوعًا من الشعرية الإيقاعية في لغة السرد لا تقل بحال من الأحوال عن إيقاع الشعر وربما تفوق إيقاع قصيدة النثر، إن الأديب يحتاج إلى الإيقاع للتعبير عن انفعالاته ورؤاه وأفكاره أيضًا في مواقف تتطلب لغة موسيقية عالية تعبّر عن لحظة نفسية غارقة في التوتر تبحث عن سلّم موسيقى تتصاعد عبر درجاته بخاصة تلك الدرجة التي تصل بين النفسي والجمعي أو تضع الذات في مواجهة مع التحوّلات الاجتماعية، تعبّر هذه الوظيفة عن انفعال المتكلم، وعواطفه، وعلاقته النفسية باللحظة التي تحرك في أعماقه الشجن، وتضع – هذه الوظيفة – أمامنا المتكلم المتأثر بالموقف لأقصى درجات التأثر.
– في السياق السابق تأتي الشعرية في إيقاع غنائي يولد من تغيّر أسلوب الحياة ممّا يشعر المتكلم بالفقد المؤلم فيقع فريسة لعالم لا يعرفه نتيجة ضياع عالم يختزنه في ذاكرته لم يعد له وجود، فكأنه شاعر يقف على الأطلال.
– إن الإيقاع يولد من صيغ الألفاظ والتراكيب النحوية مثل (القاسية/ العالية – المعروق/ المنقوش – كفاح/ فلاحة – وجوها/ ذقونًا/ شعورًا – مغسولة/ مفروقة/ مدهونة) والتكرار المباشر مثل (الخضراء/ الخضراء – أباظة/ أباظة – جماعات/ جماعات) أو التكرار الدلالي مثل (الخرسانية/ الأسمنتية – البلد/ قريتنا) والتعبير بضمير جماعة المتكلمين في (قريتنا)، كل هذه عناصر تمنح النص تشكيلا يرفع إيقاع الغنائية فيه، بالإضافة إلى التعبير بضمير المتكلم المفرد الدال على حضور الراوي بعينه وصوته؛ ليكون شاهدًا على ما يحدث في قريته من تحولات اجتماعية لها أكبر الأثر على جيله الذي يتوارى من خريطة الواقع مع ما يتوارى من قيم عاشها أبناء ذاك الجيل.

ثانيًا: الوظيفة الدرامية للخطاب السردي:
– تعكس لنا اللغة دراما اللحظة بما فيها من صراع خارجي وداخلي بين عالمين أحدهما الماضي المتوتر في ذاكرة الراوي والآخر الواقع المتغيّر الذي يراه أمامه، ولاشك أن المفارقة بين المشهدين: المشهد المختزن في المخيّلة الذي يبحث عن نفسه على أرض الواقع وفي أناسه السابقين، والمشهد المتجلي أمام عين الراوي، هي المحور الدرامي في التشكيل النصي.
– وقد بدأت الدراما بالفعل تأكل في التعبير: “أشاهد الأعمدة الخرسانية، تأكل الحقول الخضراء على طريق أباظة شيئًا فشيئًا، وما تبقى من الأرض الخضراء”، فهذا الفعل هو المفتاح الذي أدار الوظيفة الدرامية.

ثالثًا: الوظيفة الثقافية للخطاب السردي:
– قدّم النص صورة لما يحدث في القرية المصرية من متغيّرات سلبية نتيجة انصراف أهلها عن نمط الحياة الزراعي والبحث عن سلوك العولمة الذي يمنحهم لذة تشبه لذة المخدرات؛ لذلك تأتي تعبيرات مثل (الفيلات المزركشة – التويوتا – كريمات لامعة – المارلبورو الأحمر)؛ لتعلن عن نمط الحياة الاستهلاكي الذي تسلل إلى حياة الفلاح فانصرف عن أرضه بحثًا عن المال في بلاد الحجاز؛ ليعمل أجيرًا تاركًا أرضه تبور.
– لقد كان المؤلف في غاية الذكاء حينما استخدم مجموعة من العلامات الثقافية كالآتي:
– تُعدُّ كلمة “التويوتا” التي تصف الميكروباص علامة ثقافية للاستيراد من الشرق، لقد تغيّر نمط حياة الفلاح؛ لكن المجتمع لم ينتج النمط الجديد من داخله وإنما يستورده، من أقصى الشرق.
– أمّا عبارة “الماولبورو الأحمر” فهي علامة ثقافية على استيراد المنتج الاستهلاكي من أقصى الغرب للتباهي به مع أنه مدمر للصحة التي يحتاجها الفلاح للعمل في أرضه.
– كان للألوان دلالات في التشكيل الجمالي والثقافي للنص، فاللون الأخضر يدل على الخصوبة التي تكاد تنقرض لانصراف الفلاح عن أرضه، واللون الأحمر علامة تحذير من استخدام المنتج الضار الذي يخطف الأبصار ويدمّر الطاقة الإنسانية، واللون الأبيض في تعبير “الجلابيب البيضاء” يشير إلى تخلي الفلاح المصري عن جلبابه الأزرق، أي انصرافه عن زي العمل، فالاهتمام أصبح منصبًا على الأناقة والتباهي ولم يعد يحترم العمل وأدواته.
– وإذا كان الحضور على السطح لأدوات الزينة والتأنق والتفاخر والمتعة، فإن الصورة الغائبة في الذهن تستدعي القميص المعروق والفأس والشملة الصوفية، وبالتالي فإن ثنائية الغياب والحضور في المشهد الجمالي الدرامي أصبحت علامة ثقافية دالة على تكريس سلوك الاستهلاك والمتعة واختفاء سلوك العمل والمعاناة.
– إن المقطع النثري السردي القصصي السالف – مع قصره – جمع بين ثلاث وظائف هي الغنائية والدرامية في حيز واحد، بمعنى أن النص لا يقع أسير طريقة تعبيرية واحدة نصنفه في إطارها من حيث بنيته اللغوية والجمالية والفكرية.

إن النثر يضع أمامنا في تجلياته السردية متناثرات حياتنا؛ لنراها وقد اجتمعت في تشكيل جمالي يخاطب مشاعرنا وعقولنا كي نفيد من ناتج القراءة في تشكيل منظومتنا الثقافية على نحو إيجابي نستلهم منه الرؤى والطاقة للعمل النافع الذي يعيد الأرض الثقافية خضراء مانحة للخير والجمال، واللغة هي أشجارنا الزاهية التي نهذبها ونرويها؛ لنصنع منها زادنا الثقافي في مواجهة أنساق تفكير تستهلك حياتنا وتجرفها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى