مقاربة تأويلية لديوان: «رقصات ذكور النحل» للشاعرة السورية ثناء حاج صالح
د. عمر كناوي | المغرب
تمهيد:
يعد ديوان “رقصات ذكور النحل”، أول عمل إبداعي تطالعنا به الشاعرة السورية المقتدرة ثناء حاج صالح، والصادر في طبعته الأولى عن دار الأصالة للنشر والتوزيع.إسطنبول.تركيا. سنة 2022. ويتكون الديوان من 59 قصيدة، تمتد على مساحة ورقية تقارب 167 صفحة. وقد نظمت فيه الشاعرة قصائدها بشكل أنيق، غاية في التنظيم والتقطيع والترصيع. فجمعت في نظم قصائده بين إيقاعات البحر الطويل وفضائله، وعذوبة الوافر وجزالته، وجمال الكامل ورصانته، مزاوجة في الآن ذاته بين طلاقة الفن وانضباط العلم” (كما دبج لذلك الشاعر والناقد الأردني محمد الجهالين في مقدمة الديوان).
ولعل المعجب والمثير في صفحة الغلاف، سحر الموضوع المطروق، وبهاء ألوان التشكيل، فضلا عما يؤثث سمفونيتها من حرف راقص وصوت عذب رائق،وصورة شاعرة جميلة المحيا تسر الناظرين، وسحرية الأزهار الفواحة بعبقها ورحيقها.
بهذه المشكلات الاستطيقية الماتعة،تكون لوحة الغلاف قد أزهرت واكتملت قشابتها وأناقتها، وازدادت بحضورها وضوح الرؤية والرؤيا، بالرغم مما يخفيه هذا الجمال وهذا الجلال من مآسي ونكبات إنسانية غير المتحملة،حد انفطارالقلوب،واتساع منسوب لهيب المشاعر، مشاعر الخوف على مصير الكائنات من مذكر ومؤنث، حاولت الشاعرة أن ترسم معالمه في”رقصات العنوان في علاقتها برقصات الإنسان”؟!
عتبة العنوان
باعتبار العنوان، يشكل مفتاح الديوان،فإن النصوص الموازية الخارجيةمنها أو الداخلية الداخلية، تؤشر على ما ينتظر من قادم الرقصات، وتؤسس بحق لبناء علاقة جدلية بين الواقع الكائن والواقع الممكن. بهذه البوابة، المشرعة على جمال لوحة الغلاف، يصبح اقتحام عالم رموز رقصات الشاعرة ثناء صالح، ميسرا، يحذونا إلى ذلك ما نراه من تأويل حذر، وإدراك ممكن لمقومات عالم شعري أثير، قوامه شعرية الرمز، ورؤيا ثاقبة في قراءتها للحياة والأحياء.
وقد تكون مقصدية الشاعرة من وضع هذا العنوان،محاولتها الكشف عن حدود مفارقة تجليات”رقصات ذكور النحل” وخفاء”رقصات إناث النحل”، في علاقتهما بما يسود الحياة من عناصر طبيعية وإنسانية ائتلافا واختلافا.
بهذه الإطلالة المبتسرة، أمكننا الوقوف على حقيقة رؤيا الشاعرة، والاقتراب من موقفها من عالم الذكور والإناث،حضورا وغيابا،في ارتباط كلي بلغة الرقص والطنين،كأداتين تواصلتين، ينعم بهما الراقصون والراقصات، إن بطريقة اهتزازية أو دائرية، تبعا لقرب النحل او بعده عن مصدر الغذاء. بهذا التأويل،يصبح ميسرا فهم مسألة انضغام عالم الحقيقة بعالم المجاز.
ونكون بموجب كيمياء شعر ثناء صالح، قد انتقلنا من مجتمع مهزوز يسوده الاضطراب والفوضى، إلى مجتمع بديل،آية في المواظبة والعدل والتنظيم والبناء، ونموذجا لما ينبغي أن تكون عليه الحياة البشرية من انسجام وتناغم، وشجاعة وطهارة وعفة، حد تصديق القول: “اذكروا الله من النحل إلى النمل”.
وعودا على بدء، يكون خوض الشاعرة في موضوع النحل، مجرد تكريس للاعتبار الممنوح لهذا النوع من الحشرات، وتمييزا لممكن المجتمعات البشرية، بل ما ينبغي أن يسود المجتمع المؤمن من وحدة وتعاون ومثابرة وإنتاج.
وفي ذلك استجلاء للحكمة الربانية من خلق النحل وذكره في القرآن الكريم. يقول تعالى في سورة النحل، آية: 69/68 :”وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون.”
فلا غرو أن يشبه المؤمن بالنحلة كما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم:(مثل المؤمن كمثل النحلة، إن صاحبته نفعك، وإن شاورته نفعك، وإن جالسته نفعك، وكل شأنه منافع، وكذلك النحلة كل شأنها منافع (عن الإمام أحمد وابن أبي شيبة والطبراني).
وبالعودة إلى العنوان، نلاحظ ما تولد عنه من نصوص موازية أشرت على ما ينتظر من رقصات دالة، ممثلة في ثلاث رسائل، قد تساعدنا في تقريب الهوة بين القراء والمتن الشعري.
أ –نص الإهداء الذي، تخاطب فيه الشاعرة أباها الغائب الحاضر قائلة:
ب- إلى روح أبي في السماء. ولأنه ذكر أنجز مهمته قبل أن تتوقف حركة الرقص أو الإنجاب لديه، يتحول إلى مجرد ذكرى، أبعد ما يكون عن خدمة الأسرة. وهو نفس المآل الذي انتهت إليها رقصات ذكور النحل، قبل أن تلقى مصيرها.
وأمام منزلة الذكور “الدونية” في مجتمع النحل، ونظرا لما ينتهي إليه مصيرهم عادة في مملكة النحل، فقد حاولت الشاعرة أن تعيد الاعتبار للذكور، متحاشية إبعادهم عن خلية الأسرة، كما جرت العادة في مجتمع النحل. تقول، في أبيات وردت خارج فضاء الديوان، مؤكدة على مصير ذكور النحل غير المخصب، بعد إبعادهم عن حلبة الصراع
نفى حراس مملكتي ذكورا
بغير الشهد لا يبغون حصة
وحول نوافذي ما ثم إلا
ذكور النحل قد مات برقصه
(الفضاء الأزرق)
ج- إلى روح أمي في الأر ض، تلك النحلة الراقصة، مصدر التوالد والإنجاب، الراعية للنسل/النحل ومحصنته.بفضلها يستمر الرقص بنوعيه الدائري والاهتزازي.فهي مصدر الرقص والحياةومنبع الحنان.بها تسمو الإناث عاملات ومربيات، وتنقرض الذكور حسب ما تمليه مواقفهن ومواقف بعض النساء من الرجال.ومن أجل الأم والأنثيات الأخريات،نظمت الشاعرة قصيدة “أماه” ص:81، التي تقول فيها:
معناي في عجزت أتقن وصفه
يا قبة الروح التي جدرانها
حول المكان بداخلي
ملتفة
قطع الرجا
أماه في نصف الطريق فأكملي لي نصف
يا منبع النور الذي
في آخر النفق الطويل منور
عيني تلمست الغياهب من شعاعك جوفه
(ص83)
وفي حق الأب، نظمت مرثية:” أبتاه يا طفلي البريئ”،قائلة:
ما للعيون وقد نفدت عصيرا
يرجون منك إذا اختفيت ظهورا
وعلام إن سأل الغيابة يعطها
رجل يكسر بالغياب ظهورا(ص: (64)أ
بتاه ضاق العمر عن سف إلى
مهج توحش في العناق صدورا
(ص: 65.)
د – ورسالة تكلم فيها اشياءها في مدينة حلب، الحاضرة دوما في ذاكرتها بديار الغربة. تقول في قصيدة” هان الوداع”:
غير النوافذ ما تخطاني أحد
نحو الأبد
إلا الذي قد مد أعناق الثواني من مكاني للبلد
(ص: 34)
هان الوداع وكل شيء هانا
لن تبدليني بالمنازل خيمة
يا غربة
لم تبق لي في المنزلين مكانا (ص: 36)
قبل أن تختتم الشاعرة رسائلها بقصيدة “نبوءة” قائلة:
كثير على قلبي البلاء بمهجري
وبعثرتي في الأرض حيث تعثري(ص: 44)
وقولها مسيتزيدة ابتياع دموع أخر:
يا بائع الدمع بعني( للبكا) عددا
ما غادر الأرض مسكون بموطنه
وإن تأبط حمل الهم وابتعدا
يجدر بنا أخيرا أن ننوه بإيقعات الشاعرة وشعرية رقصاتها الحزينة، مستحضرين رقصات المتنبي حي قال:
لا تحسبوا رقصي بينكم طربا
فالطير يرقص مذبوحا من الطرب
بوركت رقصات الشاعرة ثناء ورقصات الأدباء والنقاد،ومتتبعي هذه الحلقة الماتعة من حلقات برنامج المركز العالمي للدراسات العربيةوالبحوث التاريخيةوالفلسفية بعاصمة الأنوار. باريس.