عبده الوزير وعفن الواقع في سردية محمد عمر
أ. د. محمد عبد الرحمن عطا الله
تعددت مراحل السرد بين التاريخي والواقعي والأسطوري والتجريبي وغير ذلك من المراحل؛ إلا أن الواقع يبقى أثيرًا لدى السارد؛ فالأديب ابن بيئته، ويسهم الواقع في بناء الشخصية، ويشكلها تشكيلًا يتفق مع ميولها، وأنماطها المتنوعة والمتعددة.
ويظل الواقع أيضًا مفضَّلًا لدى المتلقي في العملية السردية؛ لأن الواقع يعبر عن آماله وآلامه، وأفراحه وأتراحه.
وعبده الوزير”إزازة سابقًا” قصة قصيرة للدكتور محمد سيد علي عبد العال، أو محمد عمر الاسم الذي اشتهر به؛ تلك السردية لم تشر إلى عفن الواقع وفساده فحسب،بل تنقل الواقع المتردِّي، وتصوره تصويرًا عبر الكلمة الموحية، والتركيب المحكم الأخَّاذ، الذي يوحي ولا يصرِّح، ويلمِّح، ولا يبوح بكل التفاصيل، وتبقى مهمة المتلقي البحث عن المسكوت عنه، والنبش عن المخفي، والكامن خلف السطور.
ويمثل العنوان الحبل السُّرِّي الذي يربطه بالمتن، ويتسرب فيه منذ الكلمة الأولى؛ حتى الكلمة الأخيرة، وأول دال يقابلنا في هذا العنوان ” عبده”، وهو اسم مختار بعناية؛ فلم يكن “عبده” تقيًّا نقيًّا عابدًا زاهدًا، بل عبدٌ للأهواء،عبدٌ للمناصب،عبدٌ للخداع والاحتيال؛ فهذا الدال معبر عن الواقع وفساده، ويلازم “عبده” في العنوان لقب “الوزير”، وهو لقب يدين الواقع ويعرِّيه، وهذا دال يستشرف المستقبل، ويشير إلى ما تؤول إليه الأمور في مقابل الماضي ” إزازة سابقًا”، وهذان الدالان يشيران إلى واقع ” عبده الوزير” وفساده، واختيار لفظ ” إزازة” أكثر دلالة على عفن الواقع، فقد استبدل الكاتب “إزازة”–بدلالتها في العامية المصرية- بزجاجة الفصيحة، فقد كان عبده”مترنحًا كأنه في حالة سكر دائم حتى لقبوه عبده إزازة بما انعكس عليه طول معاشرة الأوغاد والأوباش من كل صنف”.
وإن كان العنوان إشارة موحية إلى كامن مستور؛ فإن المتن يكشف الفساد في كل مناحي الحياة؛ حيث يفاجئنا الملفوظ السردي منذ الجملة الأولى بفساد الحياة التعلمية التي هي سر تقدم الشعوب وحضارتها؛ فعبده ” يطرق بأسفل القلم على طرف الكرسي في لجنة الاختبار؛ مشهدًا محوريًّا في حياته كلها”.
إن الطرق بمؤخرة القلم دليل على العجز والتخلف، فسنُّ القلم رمز الانطلاق والتفوق، والطرق بأسفل القلم إشارة متفق عليها للغش في الامتحانات.
ولم يتوقف فساد العملية التعليمية على “عبده” فقط، بل يطال الأساتذة، فعبده” يتولى لهم جمع الأموال من جيوب أولياء أمور الطلاب بمهارة وحذق ثمنًا للكتب الدراسية والمذكرات والملخصات وأوراق الأسئلة السحرية والسِّريِّة؛ ذوات الأختام الصكوكيَّة”.
إن تلك العلاقة الفاسدة التي كوَّنها مع أساتذته جعلته يفوز بانتخابات اتحاد الطلاب طول فترة الدراسة، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل يحصل عبده إزازة “على أعلى الدرجات”
و” لم يقف طموح عبده عند درجة الليسانس؛ فاستثمر علاقاته بأساتذته، وارتفع بدوره معهم، وتفنن فيه، ونمَّاه مع السنين حتى صار الدكتور عبده. ومع كل صعود صارت الوزارة تقترب منه لقدرته الفذة على إلقاء عصاه السحرية في أوقاتها المحسوبة بدقة متناهية”.
وإن كان دال “إزازة” إدانة للواقع الاجتماعي، وتفوق “عبده” إدانة للعملية التعلمية، فإن منصب الوزارة إدانة للواقع السياسي ” فغدا عبده الوزير وزيرًا”. إن صعود الطفيليين نتيجة الانفتاح الاقتصادي في سبعينيات القرن الماضي، وتحول المجتمع من الاشتراكية إلى الرأسمالية، وهيمنة “عبده” على السرد، وتكرار دال” عبده” في المتن بما يقارب اثنتيْ عشرة مرة، يضاهي هيمنة الرأسمالية البغيضة على العالم، وخلق نوع من الطبقية المجتمعية.
ويدين السرد أيضًا الواقع الثقافي، فالجوائز الثقافية والعلمية؛ تذهب إلى مَنْ لا يستحق، وتتجاوز مَنْ يستحق، فقد استنكر “عبده”الوزير” تلك الحملة المشككة في جدارته بالفوز بتلك الجائزة الكبرى المستحقة”.
ويستدعى السرد إلى عالمه الواقع الإعلامي؛ إن إلقاء الضوء على “عبده” وجائزته من خلال برنامج تلفزيوني؛ إنما هو إدانة للإعلام والإعلاميين، فعبده انتهازي مخادع مزيف، وظهوره تزييف للوعي، وخداع للجماهير.
وكما بدأ السرد بالنقر بالقلم في لجنة الاختبار، انتهى بالنقر بالقلم في برنامج التلفاز، ومن ثم فقد صار النص دائريًّا أو حلزونيًّا، فكما بدأ الكاتب أوَّل النص يعيده، وهذا يمنح النص ترابطه وتماسكه.
هذا النص الذي بين أيدينا؛ نصٌّ شديد الإيجاز؛يوحي أكثر ممَّا يصرح، ثري بالمعاني، غني بالدلالات، يعطي أكثر من قراءة، منفتح على عوالم شتى،وتلك سمات الأعمال الجيدة التي لا تبلى من كثرة النقد.