اليد الإسرائيلية الخفيفة على الزناد (3 / 3)

نهاد أبو غوش | فلسطين
ظلت مشكلات تعليمات إطلاق النار قائمة على امتداد السنوات اللاحقة للتقرير السالف الذكر، ففي تشرين الثاني من العام 2017 أصدر مركز “بيتسيلم” تقريرا يوضح فيه أن التعليمات التي وضعت أساسا لمنع “إصابات لا داعي لها في الأرواح” لم تمنع عمليا مقتل آلاف الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، وعزا المركز هذه النتيجة إلى مخالفة التعليمات مرارا وتكرارا بموافقة كبار الضباط، والتوسيع المصطنع لمفهوم “الخطر على الحياة”، بالإضافة لتوسيع مفهوم ” المشتبه به بارتكاب أعمال خطيرة” ليشمل مشعلي الإطارات وراشقي الحجارة، والمشاركين في المسيرات والمظاهرات، بما يقود في نهاية المطاف إلى انطباق هذا المصطلح على كل فلسطيني، في مخالفة صريحة لقواعد القانون الدولي الإنساني.
كل فلسطيني مشبوه
ظل الغموض يكتنف تعليمات الجيش الإسرائيلي لجنوده حول الأسباب والظروف التي تستدعي إطلاق النار، حتى بعد الكشف الذي اورده تحقيق موسع بثته القناة 20، ونشره موقع “الآن 14” العبري في 13/9/2021، وذلك بعد مقتل شرطي حرس الحدود الإسرائيلي برئيل حدريا شموئيلي على حدود قطاع غزة في شهر آب 2021، حين أطلق مسلح فلسطيني النار عليه من خلال كوّة في الجدار. وتعالت بعد هذه الحادثة أصوات كثيرة تتهم الحكومة وقيادة الجيش بأنها لا توفّر الحماية للجنود، وتُقيّد صلاحياتهم في إطلاق النار عند استشعار الخطر. وقد رفض رئيس الأركان أفيف كوخافي هذه الادعاءات مشددا على أن التعليمات الممنوحة للجنود “واضحة وحادة وقاطعة”، وأي ادعاء آخر هو كذب. تحقيق القناة 20 خلص إلى نتائج مغايرة تماما حين كشف أن التعليمات التي يجري الحديث عنها طويلة ومعقدة ومفصلة فهي تملأ 14 صفحة وتتعرض لكل الحالات والاحتمالات بحيث يصعب على الجندي الذي تدرب على الجوانب القتالية والعملية أن يحفظ هذه التعليمات ويعمل بموجبها.
بعد عشرين عاما من نشر تقرير بيتسيلم لعام 2002، يتواصل الجدل في إسرائيل حتى أيامنا هذه (2022)، حول تعليمات إطلاق النار، ويتوالى نشر التقارير الحقوقية والصحفية حول هذه التعليمات وطابعها الغامض والفضفاض والعنصري، وسرّيّة بعض بنودها وتفاصيلها، ومع أن تعديلات طفيفة طرأت على تلك التعليمات، لكن التدقيق فيها يوضح أنها جاءت لتوسيع عمليات إطلاق النار الحية على المشبوهين وليس لتقليصها أو تقليص نتائجها الدموية.
في تشرين الثاني 2021 ، وسّع الجيش الإسرائيلي تعليمات إطلاق النار لتشمل من وصفهم بسارقي الذخيرة والوسائل القتالية من القواعد العسكرية الإسرائيلية، وكذلك التصدي لعمليات التهريب والمهربين على الحدود مع مصر، وقد أشاد رئيس الوزراء السابق نفتالي بينيت بهذه التعديلات واعتبرها في تغريدة له على تويتر إنجازا مهما وقال “يجب أن تتوفر لجنود الجيش القدرة للدفاع عن أنفسهم وعنّا، ونحن مستمرون في محاربة الإجرام واستعادة الأمن”.
أصداء النقاش والجدل، واستمرار الغموض حول تعليمات إطلاق النار والخلافات بشأنها، ترددت حتى في اجتماعات المجلس الوزاري الأمني المصغر. ففي آذار 2021 انتقدت الوزيرة ميخائيلي (التي رأيناها آنفا تشيد بالمصوّر بن عمي) سياسة الجيش الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وقالت في حديث أورده راديو الجيش ونشره على صفحته على تويتر بتاريخ 21/3/2022 “بينما نعمل لتعزيز السلطة الفلسطينية على المستوى المدني، يُقتل الفلسطينيون بنيران الجيش الإسرائيلي، والشعور في الجانب الآخر، هو أن اليد خفيفة على الزناد. رئيس أركان الجيش كوخافي لم يفعل سوى القول أنه “يجب التمييز بين الإرهابيين والفلسطينيين، ونحن نحقق في كل حادث”.
ثقافة القتل وجذورها
من الواضح أن تعليمات الجيش الإسرائيلي لإطلاق النار، والدفاع المستمر عنها من قبل القادة السياسيين والعسكريين، والتخويف الدائم من خطر الإرهاب الفلسطيني، خلقت ثقافة عامة في المجتمع الإسرائيلي جعلت يد كل إسرائيلي خفيفة على الزناد، سواء كان هذا الشخص عسكريا أو مستوطنا أو مدنيا. ففي حادثة مقتل الشاب الفلسطيني المهندس علي حسن حرب (28 عاما) من قرية سكاكا قرب سلفيت في حزيران الماضي، طعنا على يد مستوطن من مستوطنة أريئيل، قامت السلطات المختصة بالإفراج عن القاتل بعد أيام قليلة من الحادث، واكتفت بفرض الحبس المنزلي عليه بتهمة “الإهمال المفضي إلى الموت”، مع أن رئيس مجلس المستوطنات في شمال الضفة يوسي دغان رأى أنه لم تكن ثمة ضرورة من الأساس لاعتقال المستوطن واستجوابه.
أما في الجدال السياسي والإعلامي الذي يعقب عمليات القتل خارج نطاق القانون، وإلى جانب التبريرات الأمنية والعسكرية عن خطر الإرهاب، كثيرا ما يلجأ المتحدثون الإسرائيليون وبينهم وزراء ونواب وإعلاميون وقادة عسكريون، علمانيون ومتدينون، إلى القاعدة الفقهية التوراتية والتلمودية الموروثة عن العصور القديمة والتي مفادها “إذا قام أحدهم لقتلك، اسبقه واقتله أنت” ، ومع أن هذه القاعدة لا مكان لها في دولة تعلن أنها دولة قانون ومؤسسات ولا تُشرّع عقوبة الإعدام حتى في أخطر الجرائم، إلا أنها يمكن أن تفسر تبني كثير من الدوائر الرسمية والأهلية، المدنية والعسكرية، في الدولة لعمليات القتل الميداني من دون محاكمة، بالإضافة إلى الثقافة العنصرية والتمييزية السائدة في التشريعات والممارسة على حدّ سواء، والتي تنظر لحياة الإنسان الفلسطيني على أنها أدنى قيمةً من حياة الإسرائيلي اليهودي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى