تنويعات المحمول الجمالي في ديوان (تغير الأسماك رأيها على اليابسة)

د. سمير الخليل
بدءاً من المنحى الاستفزازي للعنوان واستهلالات النصوص تضعنا المجموعة الشعرية (تُغير الاسماك رأيها على اليابسة) للشاعر حسين المخزومي الصادر عن دار الرافدين، بيروت، 2021. إزاء تجربة شعرية تثير الكثير من التساؤلات وتلفت الانتباه لحيازتها شكلاً من أشكال المغامرة الجمالية وما تنطوي عليه من استلهام المفارقة الوجودية وتشظياتها وقدرتها على الانفتاح على مساحة من الدهشة والتأويل والإيحاء.
ويتمركز الخطاب الشعري في تجربة حسين المخزومي على المفارقة ورصد التناقضات وتوتر اللحظة الشعرية الملتبسة واللجوء إلى الإشعارات الحادة وتأسيس منطق مغاير للنظر إلى حركة الحياة وصراعاتها المكتظة بالوجع والقلق وأحياناً العدمية:
أريد أن أعيد كل المشاهد السعيدة في حياتي
بالحركة البطيئة
وأمعن في مشاهدتها كيف مرت؟
مثلما تُعاد الأهداف في مباريات كرة القدم
أريد أن أعيد كلّ المشاهد حتى وإن كانت حزينة
أو أهدافاً سُجلت عليّ
أو سجلتها على نفسي بالخطأ
سأراقبها ببطء وأحللها
لكن أخاف أن أفرط في اعادتها
وأنسى هذه اللحظة. (ص13).
نجد هذا الولع في توظيف المفارقة وإعادة النظر في ظواهر الحياة والمواقف وفق معالجة جمالية تعيد إنتاج الفكرة بتغير زاوية النظر وانتاج فكرة جديدة لأحداث تقليدية عابرة كما في نص (الهايكو) (موجة):
الموجة التي تصل الشاطئ
تحاول انقاذ نفسها من الغرق… (ص87).
× × ×
وفي نص (غابة):
أنا شجرة واحدة فقط
لأني مشيت إليكِ
صرت غابة (ص94).
× × ×
وفي نص (تطرف):
توقف عن سماع الموسيقى
وشيئاً فشيئاً
ستصبح قاتلاً. (ص92).
تحفل المجموعة بتوظيف اللغة الشعرية واستثمار مستوياتها التعبيرية وتعميق روح المفارقة في النسق اللفظي وابتكار الصور الغرائبية وسيريالية التوصيف وإشاعة السخرية الممزوجة بالرثاء نجد مثل هذا الإشتغال في نص (حياة أضيق من حذاء)!:
كان الحذاء ضيّقاً
وحازماً كرأي
قال لي الإسكافي
إنه سيتسع بالمشي مع الوقت
ضحكت على كلماته الجاهزة
لم أعد أصدّق هذه الفكرة
فبيتنا لم يتسع من صراخ أبي المتكرر
فلا أدري إن كان قبري
سيكون على مقاس جسدي
بما يكفي… (ص50).
ونجد في النص براعة الصور الشعرية المشاكسة وتوظيف اللحظة الملتبسة العابرة وتفكيكها باتجاه المعنى المفارقاتي الجديد، ونجد كذلك العناية القصدية في ختام كل نص أو ما يسمى بلحظة التنوير أو الضربة النهاية، كما في نص (طرق متأخرة):
إن تأخرت أنا…
انتظري الطريق
الطرق أيضاً تصل متأخرة.. (ص66).
في هذه المجموعة نجد التركيز على وجود الماء بوصفه دالاً للتطهير والبحث عن الوجود المثالي وإدانة القبح والكثير من نصوص المجموعة يرد فيها ذكر الماء والأنهار والمطر ويكتسب الماء شكلاً من أشكال الترميز كما في نص (العوم في الحب برأي سمكة):
في تلك المياه بين جدران أربعة من الزجاج، تتكاثر من غير أن نعدّ الابناء،
تضعين بيوضك في زوايا الحوض. نفعل هذا بينما العالم في الخارج يعوم مثل سمكة ولا يعبأ بنسبة المياه التي تنخفض كلما اشتقت إليك. (ص12).
وفي نص (غيم مزاجها):
تحدثه عن روعة المطر وهي تحت مظلة
ويبقى وحده مبلّلاً. (ص96).
وإلى جانب التعمق الرمزي بعنصر الماء نجد انتباهات الرؤية الشعرية تركز على ماهية الزمن وتجلياته ورمزيته وأغلب النصوص تستعير معنى الزمن وتشتغل عليه بوصفه ظاهرة تؤطر الأحداث وتمثل الخلفية الفلسفية لمعنى الوجود كما في نص (ما أنفقه الوقت):
كنت طفلاً عابثاً بالزمن
يحب جمع الساعات اليدوية.
اسرقها من معاصم التلاميذ وما تدخره المعلّمات.
في حقائبهن في لحظات الدروس الطويلة. (ص14).
× × ×
في نص (حيوات كثيرة بثوب واحد):
ستكبرين يوماً
لن يبقى الوقت في ساعتنا صبياً
سينفذ مثل وقت في حانة
كقناني الخمر
والأصدقاء
سينطفئ فجأة. (ص23).
وفي نص (كونشيرتو الأعداد الصغيرة) يقول:
فأنا أكره الحساب
وهذا السيل من المطر
والأرقام
أريد أن أنسى شهر ميلادي
وكم أبلغ من العمر الآن. (ص39)
× × ×
ونجد صورة أخرى للزمن في نص (طوق نجاة على اليابسة):
سيوقظك الصباح
أنت التي تجعلين من منبه الساعة
طوق نجاة. (ص40).
× × ×
ويوظف النظرة وفق الخيال العلمي للزمن في قصيدة (بحث اركيولوجي في عظام القصيدة):
بعد آلاف الأعوام
بينما هم ينقبون عن الهواتف النقالة
كقطع أثرية ثمينة
يجدون هذا الهاتف تحت اكداس من التراب. (ص56).
× × ×
ومن التنويعات الجمالية ومحمولاتها نجد عدداً من النصوص القصيرة المختزلة أو ما يسمى بالومضة وهي تشبه قصائد أو مقطعات (الهايكو) الياباني وقد برع فيها وكانت التقاطات صورية تثير الدهشة والمتعة ووسمت بعنوان عام هو (نيابة عن المسنين). ففي نص (صياد) يقول:
السهم الذي لم يصب الفريسة
يُصيب قلب الصياد….(ص67).
× × ×
وفي نص (ثمالة):
صديقي الثمل منذ عشرة أيام
لا تخرج
الصحو في الخارج مرعب جداً (ص69).
وفي نص (صلاحية منتهية):
الحياة هنا
تحفظ بعيداً عن تناول الإنسان (ص71).
× × ×
وفي (مبادلة):
تنازلوا عن أعماركم للشهداء
بادلوهم الأدوار.
حين تشعرون أنكم لا تتقنون الحياة. (ص73).
× × ×
وفي هوية (الانتظار):
الانتظار
جلوس تحت امطار الدقائق. (ص81).
× × ×
وتحفل نصوص أخرى تصوّر قبح الحروب كما في نص (بوصلة معطلة):
بعد الرصاصة
كلانا لا يعرف اين يذهب
أنا والدماء الخارجة من جسدي. (ص90).
وفي (سيرة أخرى للّون الأحمر)، يقول:
كان مرتبكاً كثيراً
خائفاً فوق قمصان القتلى
يخجل من دون أن يلاحظه أحد. (ص86)
× × ×
وفي نص (تذاكر رخيصة):
نحن الهامشيين
أرخص من أن نموت
واحداً واحداً
غالباً ما نخرج من الحياة كلنا
بتذكرة واحدة
بمفخخة أو بحرب
تجرف جثثنا بعيداً عن المقبرة
ولا عجب إن نمنا كلنا بقبر واحد.
نحن الذين لم نعتد أن تكون في بيوتنا
غرف كثيرة.
يا إلهي نحن الذين لا نكلف شيئاً من طينك
ستنفذ تذاكرنا
قبل أن نصل إلى طابور القيامة. (ص108).
× × ×
وحفلت المجموعة بتجربة غريبة حين اشترك الشاعران حسين المخزومي والشاعر عدي السراي بكتابة نص شعري مشترك بعنوان (طفل الإشارة) :
أيها الطفل
هل اتخذت عمود الكهرباء مظلة
تحتمي بها حين يهطل الظلام
أم تراك جلست على ضفاف الشارع
لتتجنب الغرق في أمواج العابرين؟!. (ص97)
× × ×
وثمة ظاهرة إشارية وقصدية وظفها الشاعر حين استعار الكثير من مصطلحات الحياة اليومية والاسماء التي تتردد كثيراً:
مثل (سلو مشن/ انتشتاين/ رولان بارت وهمنغواي/ الهاتف النقال/… الخ.
وكان نص (عاجل لم يكن كذلك) فإنه نص مكتنز بالصور والعمق وبتجسيد الخراب اليومي وهوس الانفجارات والتقاط ما هو مأساوي ويومي:
جثث تتراكم
بعربات الباعة المتجولين
وسيارات الإسعاف
تنقل شظايا القنبلة إلى المشرحة!
عباءة مبللة بلون الليل
تغطي أجساداً
ولدت عارية من رحم المهزلة
رجل يبحث عن ساقه
بعد الانفجار بخطوة
طفل غفا على صدر امه
صحا فجأة في الجنة!! (ص32).
مجموعة الشاعر حسين المخزومي تمثل توجهاً جديداً في معالجة الثيمات الشعرية والخوض في الإبتكار على مستوى المحمولات الجمالية والتوغل في أسارير الواقع والمواقف وتناقضات المفارقة المأساوية التي تكفن عالم اليوم المفخخ بالقلق والعدمية وغياب المعنى وكان من بين توهج المعالجة تلك اللغة غير القاموسية والمتمردة في التوصيف والترميز واستطاعت النصوص أن تحلق بعيداً باتجاه التأويل والتأمل المعرفي ورسم الصور الشعرية المؤثرة، فحسين المخزومي شاعر واعد يملك أدوات الشعر وقدراته الإبداعية في تطور حتمي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى