الأسير وليد دقة… يا إلهي رأيت القمر
عيسى قراقع | فلسطين
عندما دخل الأسير الفلسطيني وليد دقة عامه السادس والثلاثين في السجن ونقل إلى سجن النقب الصحراوي قسم الخيام حيث يبقى الأسرى حتى الساعة العاشرة ليلاً في الساحة الخارجية، نظر إلى السماء وصرخ: يا إلهي رأيت القمر، وكانت صرخة المندهشين والمكتشفين والمخترعين والمحرومين الذين خرجوا من قبورهم الضيقة إلى سعة الحياة.
النظام السائد في السجون الصهيونية يقضي بإغلاق الأبواب على الأسرى الساعة السابعة مساءً فلا يشاهدون غروب الشمس أو سدول الليل ولمعان النجوم، الأسرى محرومين من متعة الليل عندما يجيء هادئاً يعانق الحالمين والعشاق ويغسل نهارهم ويوعدهم أن الغد أفضل من الأمس كي يناموا مطمئنين.
الأسير وليد دقة يصرخ يا إلهي رأيت القمر، وكان متأكداً أن القمر نظر إليه وتدلى على كتفيه وعانقه وقبله وعاتبه على هذا الغياب الطويل، لقد احتفل أكثر من ألف أسير في سجن النقب بلقاء وليد مع قمره وسمعوا العتاب بينهما والنجوى والأشواق وتبادل الرسائل السرية في علاقة حميمة بين سجين وقمر في وسط الصحراء.
وحسب شهود عيان من قبل أسرى النقب، صعد وليد فوق سطح القمر وحلق معه في أعالي الفضاء، وعندما عاد وليد روى عن رحلته الجوية عبر كل الأفلاك والمدارات وكيف التقى بكثير من الأحباء والأصدقاء، قال وليد: رأيت فلسطين من البحر إلى النهر، كل القرى المهجرة والمدفونة تحت الأنقاض، رأيت حيفا وعكا وباقة الغربية والناصرة، لم تعترضني طائرات حربية أو حواجز عسكرية، لم تلاحقني صواريخ وقنابل، أنا سيد الفضاء، لا حدود ولا مستوطنين ومستوطنات، الكون كله ملكي.
في فلك عطارد رأيت المقدسيين المرابطين والمرابطات خاشعين متعبدين، المصاحف والأناجيل والحجارة والقناديل على جنوبهم مشتعلين في الصلاة.
في فلك الزهرة التقيت بالشهداء يجلسون فوق قممهم العالية، تحيطهم ظلال باهرة مشمسة، عناقيد مضيئة من النجوم، منازلهم تزينها أرواح ترفرف، تصعد وتهبط كأنها تحتفل بقدوم أول زائر يصلهم من الأحياء.
في كوكب المشتري استقبلني الأسرى والأسيرات، حملوني وزفوني وألبسوني بدلة عرس وعطّروني بالحنّاء، سألوني عن الباقين من الأسرى هناك في السجون والمعسكرات، عبرت بوابة واسعة كتب عليها بوابة الحرية، والذي أدهشني أنه على رأس كل أسير يحلق قمراً لا يفارقه، عندها عرفت لماذا يخرج الأسرى من عتمة السجن إلى نهار الانتباه.
في كوكب زحل التقيت بأبي التاريخ هيرودوت، لأول مرة أعرف أن هيرودوت تم صلبه في التاريخ والرواية لأنه اكتشف فلسطين اسماً وجغرافيا وهوية ومكان، أخرج مخطوطة عتيقة ودلني على مكان بيتي وقبور أجدادي، وعلى امتداد الخريطة من الشمال إلى الجنوب حدثني عن تطور الحضارات الكنعانية والفينيقية والممالك الغابرة، هيرودوت أخذ يبكي لأن الباحثون التوراتيون والمستعمرون والمستشرقون صلبوه وعلقوه في النسيان.
يا إلهي رأيت القمر، أكثر من نصف حياة الأسير الفلسطيني هي ليل، النهار قصير شحيح وبطيء في عالم الأسرى، النهار هو الزمن العاري الخشن القاسي، النهار للسجانين وقوات القمع وسيارات البوسطة، لنظام العدد والتنقلات والتفتيش، لكن ليل القمر كان الأطول والأهدأ، سافر وليد في عقل القمر، عقل القمر هو عقل الحرية، الأكثر تأملياً، الرحلة كسرت هذه الثنائية الظالمة بين العقول النهارية والعقول الليلية، عقل الماء والروح والسكينة والسلام، عقل يؤنسن الأفكار ويكسر عقول الحديد.
كشف وليد أنه كتب ثلاثيته الروائية: سر السيف وسر الزيت وسر الطيف هناك فوق سطح القمر بين الأجرام والشموس والجنان والمنعطفات الجوية، وعندما دوّن رحلته في مسرحية الزمن الموازي، أصيبت تل أبيب بالهلع، شنّت حرباً على المسرحية وقاعات العرض والممثلين، كيف يصير الوراء في الأمام وتنقلب عقارب الوقت؟ تساءل جنرالات تل أبيب وهم يشاهدون سجيناً لا يحرّر نفسه فقط، بل يحرّر المستقبل.
يا إلهي رأيت القمر، أصبحت النوافذ مشرعة، لا قيود ولا سلاسل، جذبه القمر خارج السياج والجدران، الشعور بالتسامي كأنه داخل لوحة الفنان فان جوخ في تلك الليلة المليئة بدوامات النجوم، هذا ليس واقع افتراضي أو أو خيال في لوحة، لقد أقسم وليد أنه رأى الظلام يموت، وأن المجهول تحول إلى معلوم.
مرحباً أيها القمر، قال وليد وهو يعانق طفلته ميلاد، فمن السماء السابعة وبعد رحلة المعراج من سجن النقب إلى بحر الضباب، ولدت ميلاد من رحم القمر في دورته الخصيبة، ميلاد هي ابنة القمر، هي رؤية الأسير المباركة، ميلاد جاءت من التقويم القمري الفلسطيني وليس التقويم الإسرائيلي، مرحباً أيها القمر، مرحباً يا ميلاد.
عندما علمت إدارة سجون الاحتلال بقصة سفر وليد مع قمره خارج حدود السجن، قامت بعقابه وعزله في زنازين محكمة، ممنوع أن يتواصل مع قمره الذي شكل له حلقة اتصال مع العالم الخارجي، هذا القمر يرسل الإشارات والرسائل والرموز المشفّرة، أصبح القمر مطلوباً لدولة إسرائيل وخطراً على وجودها، ولهذا سيّجت كل ساحات السجون بالأسلاك والصفائح، غطّت النوافذ حتى لا يرى وليد قمره من الشباك.
مرحباً أيها القمر
مرحباً يا وليد
كيف وصلت سجن جلبوع؟
من شقوق الجدران
من تحت الإسمنت
من بيت الصمت