غواية النص.. التباساته وما تخبئه مضمراته.. في رواية ،، الطريق الوعر ،، للأديب الفلسطيني محمد حسين

قراءة: عقيل هاشم | كاتب وناقد عراقي

كانت شوارعُ المدينة تُطعمُ عظامها للضوءِ، تشبههُ عند اقترابِ لهاثِها من تفاصيله، تصنع له وجبات دفءٍ ليغادرَ نورَه الخافت منذ زمنٍ بعيد، عشقها لكنه يخشى المسيرَ فوقَ أرصفتِها.
تعتبر تجربة الكتابة محمد حسين الروائية قائمة على قلق السؤال وغواية النص، وفي هذه الرواية بالذات نجده قد أحالنا على “مايسمى الفوبيا الاجتماعية” اذ فتحت الرواية المجال واسعا للشخصيات أن تتحدث عن نفسها دون أية رقابة وهذه الميزة خاصية أصبحت تتعلق بالكتابة الروائية العربية عموما، خاصة مع ال ربيع العربي وانفتاح وتقدم الميديا.


يبدو أنّ القضية الفلسطينية التي شهدت سياسيا سلسلة من الخيبات والإنكسارات، وبات الانسان عاجزاً عن استيعابها أو تقبّلها قد دفع بالأديب إلى الإنحياز بفنه إلى تمثيل واقعه تمثيلاً هدفه إيجاد صيغة واقعية مباشرة لتحليل الأحداث ودراستها، لذا فقد شعر بأنّ واقعاً كالواقع الذي يعيش فيه يحتاج إلى أداة جديدة تمثّل على الأقل الجانب الخفي المضطرب., ونستطيع القول إنّ الاديب الفلسطيني قد اختطّ لنفسه طريقاً خاصة للعلاقة مع سياسة المحتل، دون أن يسلك درباً وعراً، بل قدّم أدباً يُوصف بأنّه نوع من المقاومة للتعبير عمّا يريده ، فاصبح القمع والقتل والمخيمات مادة خصبة للأدب بعد النكسة والى اليوم .
الكاتب الفلسطيني محمد حسين يصدر رواية “الطريق الوعر” الصادرة عن دار كنعان عام 2021، “الطريق الوعر” تحكي حياة شعب امتحن بالاغتراب الذاتي والمكاني ,هي حكايات بتفاصيلها عن مخيم اليرموك القابع في سوريا.
الزمن بداية الانتفاضة الأولى عام 1987 وحتى توقيع اتفاقية أوسلو 1993 ،. قدمت الكاتبة والناقدة الفلسطينية حنان بدران مقدمة تليق بقيمة الرواية فكرا ووعيا متقد لكاتبها القاص والروائي”محمد حسين” .
وكما عودنا الكاتب، ان قضية فلسطين تحتل حيزا كبيرا في أدبه. لعل هذا التوتر الفكري احتل معظم أحلام اليقظة لديه، وغالبا ما يوظف نسق الحنين والعودة هاجسا لكشف المزيد من طبقات البنية السيكولوجية للمجتمع الفلسطيني.
العنوان الطريق الوعر كناية عن الصعوبة القاسية للتفريق بين امرين افضلهما متعسر ووعر جدا.. لعل هذه الكناية “الطريق الوعر” والذي ينزع فيه القول منزع التلميح. هو الذي حددته دلالة انه “وعر” طاقة كامنة داخله.فعندما يحضر الوطن فأن المصير إما الاعتقال أو الشهادة وهنا صفاء تختار الطريق الوعر. طبعا طريق الشهادة؛ فقد شكل مرتكزا دلاليا يجب أن ينتبه عليه فعل التلقي، بوصفه أعلى سلطة تلق ممكنة ولتمييزه بأعلى اقتصاد لغوي ممكن” ولاكتنازه بعلاقات إحالة (مقصدية)، ينتقل فيها العنوان من كونه نصّا مغلقا على بنيته إلى انفتاح على شعرية التأويل. ويندرج العنوان كمؤشر واحد على جملة من العلامات السيميائية..
وهذه لعبة الحضور والغياب لذلك قال هيدجر:”الوضوح هو أكثر الأشياء غموضا”. والظهور في خاصية العنونة لا يكون إلا سمة أو علامة على معنى يحيل أو يفضى إليه، يدل بنفسه وإنما بالحكاية التي سيرويها. او التي يتحدد معنى هذا النص، لذلك فالعلاقة بينهما هي علاقة تفاعل نصي، والبنية المتقدمة العنوان جزء من هذا البناء العام لعالم النص .وعليه يشتغل العنوان ينوب عن النص/ الحكاية، يقول مالا تقوله: اقتباس: “صفاء الشخصية المحورية تفاجئنا بقرارها التخلي عن خالد والزواح من باسل الثري والد صديقتها ليس حبا بالمال إنما طمعا بانتشال عائلتها من براثن الفقر بعد ذلك الصباح حينما ذهبت لتناول إفطارها فلم تجد الزعتر فمسحت قطعة من الخبز بقليل من الزيت ومن وقتها أدركت أن التضحية أقوى من الحب.”

تشتغل الرواية عموماً على اللغة البصرية والحسية من خلال عملها على تحديد مظاهر الحجاج “الفقر” وأساليبه المتعددة ٌلإقناع المتلقي أو تبرير تيمة الانزياح ومعناها ودلالاتها المختلفة، حيث يكون دور المتلقي كبيراً من خلال تحوله “إلى منتج للدلالة، اعتماداً على ما تلقاه من بيانات وحمولات ومعطيات لسانية ورؤيوية وبصرية وفرها له النص ذاته وسياقاته الثقافية أحياناً، عندما يكون ذلك ضرورياً ولازماً لإيقاظ الذاكرة البصرية والسمعية والروحية لدى المتلقي
تبقى تقنية الانزياح اللغوي على المستوى الأساسي في تحقيق لذة القراءة والرغبة في التأويل وفك شيفرة النص الروائي ، لترتقي وتتوطد العلاقة بين النص والقارئ.
أسماء أبطال الرواية “خالد – صفاء” إلى تحقيق غايات جمالية، تتسلح بالتغيير في الرمز والمعنى العميق “صفاء روح فلسطين مع خلود عاشقها”. حيث تحصل الإفادة الأساسية لدى المتلقي الذي يبحث بدوره عن النسق المضمر الذي يحضر في النص .
إن القارئ، وهو يعمل على إعادة عملية التركيب في ذهنه للنص الشعري، يفترض فيه بالضرورة أن يصير ذاتين معاً، بصفته قارئاً للنص أولاً، ومنتجاً جديداً ثانياً،
اقتباس: “الفجرُ يدنو للخروجِ من عباءةِ الّليل، نوافذُ “شارعِ النجاحِ “المتَّصلِ مع “شارع رفيديا “في مدينة نابلس مغلقة إلا نافذة واحدة كانت تُزاحم ذيلَ النهارِ المبللِ بالولادة الصّارخة، الشارع الذي تتربع عليه جامعة النجاح الوطنية يصفّق بيديه للريح..”
يحاول القارئ أن يستكشف الأسرار المجازية للنص التي تطفو على سطحه من خلال وقوفه على السرد والذي لا يمكن له القبض على مقاصده الكنائية وغاياتها المجازية إلا بالعمل على مراقبة البناء الكلي للنص والتركيب الجامع للكلمات والعبارات المكونة له. فالمعنى الكلي أكبر من أجزائه كلها مجتمعة، لأنه يمثل ناتج التفاعلات والعلاقات التي تقوم بين هذه الأجزاء وارتباطها فيما بينها بوساطة العديد من الأشياء والمعطيات اللغوية والدلالية
يكتب الكاتب روايته بشغف وهو يمتلك ناصية السرد الروائي، وبمرونة واضحة يطوِّع الحكاية والتي ملؤها الدهشة والمفاجأة والتعبير السلس عن المشاعر والأحاسيس والمواقف. حتى يتمكن من الاضطلاع بالوظيفة المعهودة إليه

تبحث حكاية “صفاء- خالد” عن ذاتهما، عن أحقيتهما في الحياة, من خلال سرد “ملفوظات حميمية” كتقنية أسلوبية حاضرة بكل تجلياتها الإيقاعية والدلالية.
لقد اعتمدت الرواية على دلالات حسية من خلال خلق علاقة متبادلة بين الذات والمضمون في إطار خاص
تجربة عشق عاشها ابطاله ، ولأنها تصوِّر أحاسيس ومشاعر انسجام تام مع المعشوقة وبلغة تستعذب الذائقة لدى قارئه. كل هذه المؤشرات اللغوية تعيد صياغة المعنى وتشكله تشكيلاً مختلفاً عن اللغة العادية والمباشرة، من خلال التحليق بها خراج النسق اللغوي البسيط المشحون بالمباشرة والوضوح والبساطة.
اقتباس: بعد خروجها من المعتقل وعند محاولتهم إبعادها “تجمرت عيناها فجأة..الوطن أبقى..تقبض يدها بقوة ،تصفع المجندة …تأخذ سلاحها” وتصر على البقاء في فلسطين ص127″تمعن صفاء النظر: ما أجمل بلادي لن أتركها لكم”.
“تتهاوى جاثية على ركبتيها كشجرة زيتون …..تحتضن حشرجات الألم الأخيرة التي حلمت بها ،ينساب دمها فوق الإسفلت ليمنحه بعضا من دفئه الذي غادره ذات نهار”
عندما صفعت المجندة صفاء لأنها قالت “يا إلهي هذه القدس عاصمتنا” فترد المجندة عليها بصفعها وعبارة تعلن فيها تمسكها بموقفها وموقف أي يهودي “هذه أورشليم لنا”.
المحقق “ستتعرضين لأبشع أنواع التعذيب وربما الاغتصاب” وفي نفس الصفحة “ينهال عليها المحقق بالضرب المبرح مرة أخرى، يطلب أن يربط يديها ويعلقها بالحبل الموجود في الأعلى”
إن التوظيف المتعدد لفسوة التعبير هو تعبير عن حقيقة الإنسان الداخلية، وعن مشاعره الدفينة، وعن حبه ورغبته في اختزال الكون والعالم في صورة واحدة وحيدة هي صورة “الوطن” المرتبطة بالسلام والامن والاستقرار النفسي .

لأننا في حاجة إلى دائما الى الوطن التعبير الحقيقي عن صفاء وخلود النية والهدف معا مشاعره مجسدة الحياة، والمعنى .
لقد نسج الكاتب روايته نسجاً عنكبوتياً بلغة جميلة مبدعة تفرض على قارئها التوغل جيداً في مجاهل هذا النسج الذي يجمع شتات تركيز القارئ في موضوعة واحدة “الوطن” والمحددة بفكرة “الموت عشقا”، فالصورة السردية الآخذة في التصاعد تؤكد دوافع البطلة “صفاء” العاطفية والوجدانية تجاه معشوقتها “القدس”، وكأنها تعيش مخاضاً صعباً، أو كأنها تشعر بأرقٍ لا يحس بصعوبته وقساوته غيرها هي.
يترك الكاتب نهاية الرواية مفتوحة، وقد روى روايته هنا بأسلوب الراوي العليم وكعادته الكاتب يعمد الى تكثيف السرد, والاتكاء على الحوار الممسرح كوسيلة للكشف، ولتطوير الحدث، وإيصال رسائل الكاتب الخفية. ومن هنا يمكن الوقوف على رمزية العنوان “الطريق الوعر”
الرواية بالرغم من قصرها الملحوظ الذي تعوضه الكتابة بالتكثيف والشاعرية. الشعرية التي استطاعت أن تنأى بنفسها عن التكرار والغنائية، فتوظف بذلك شاعريتها في خدمة النص دون أن تجلعها عبئا عليه.

تحرص الرواية على لفت انتباه قارئها إلى ثنائية الهواجس: هاجس الحرية /الموت، والهاجس الكياني الوجودي..
هاجس الكينونة الإنسانية ذاتها، وكيف يتحقق وجودها وتتخلق ماهيتها.
وختاما.. فلابد للقارئ أن يدرك كنه المضمر في النص، ويعي ما تنتويه كل شخصية ويدرك مقاصدها، فالنص الروائي قد طرح عن أفقه كل يقين مسبق، ولم يعد النص يغيب عن الواقع، إنه يحرص على ألا تفسد التباسات الواقع المغوية، وتعول على الوعي المضمر كثيرا، وينأى عن الإفصاح عن هذا المضمر حتى يبقى سادرا . ولأنه لايسعى إلى تهدأة القارئ أو إراحته، وإنما يود أن يقلقه ويحثه على التفاعل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى