من القاهرة إلى ملوي
عبد الصبور بدر | القاهرة
(1)
كانت زوجتي في نقابة الصحفيين حين طلبت منها على الهاتف أن تحجز لي تذكرة في القطار المتجه غدا إلى ملوي، ولكني فوجئت حين عادت إلى البيت وأنا أقرأ التذكرة أنها (القاهرة – المنيا) فقلت لها غاضبا:
– ايه دي؟!!
– مالك.. التذكرة اللي انت طلبتها.. انت مش رايح المنيا بكره؟
– أنا رايح ملوي
– مش فاهمة.. معلش!.. هي ملوي دي مش في المنيا؟
– لأ.. بعدها بمسافة كبيرة
– والله!.. يعني لو انت في قنا وعايز تروح التجمع الخامس.. هتحجز تذكرة (قنا – التجمع الخامس).. ما انت هتحجز (قنا -القاهرة) عادي!
– المسألة مختلفة وانت رايحه الصعيد
– مختلفة إزاي يعني؟
– يعني مثلا إنت مسافرة إسنا..هتحجزي ايه؟
– وهي إسنا دي فين؟
– في الأقصر
– هحجز الأقصر طبعا
انهيت النقاش مع زوجتي حتى لا أرتكب جريمة قتل تضعني على قوائم الممنوعين من السفر، ودخلت اتخمد حتى أستيقظ مبكرا للحاق بموعد القطار.
(2)
بمجرد أن نزلت من القطار في محطة المنيا، اتجهت إلى شباك التذاكر لأحجز ملوي، وحين علمت أن أقرب قطار قادم سيأتي بعد ساعتين، خرجت من المحطة لأبحث عن موقف الميكروباص، سألت شخصا يسير بجواري، فتصادف أنه هو الآخر ذاهب إلى الموقف، وعرض عليَ أن يصحبني إلى المكان.
في الطريق فوجئت بالشمس تقترب من رأسي، وتكاد أن تلتهمني مثل تنين دينيرس تارجيريان في مسلسل “صراع العروش”، قلت لرفيق الطريق
– الشمس صعبة أوي
– أومال لو روحت الصعيد الجواني يا أستاذ.. قنا.. ولا أسوان هتعمل ايه؟
– منا من قنا يا خال
– أومال ليه يعني يا بو عمو محسسني إنك مولود في “مدينتي”؟!
– مروحتش من سنين.. واضح إني نسيت شمس الصعيد!
– ملوي.. ملوي.. ملوي..” كان سائق يستند على ميكروباص ينادي على الخارجين من المحطة، فاتجهت إليه، إلا أن رفيقي سحبني من يدي وهو يقول لي: “ده حرامي.. واحنا مابنركبش مع الحرامية يا أستاذ”!
– حرامي ازاي.. هو مش سواق؟
– سواق حرامي.. بيخطف الناس من المحطة.. ومحدش هيعبره.. الناس التمام بتاخد العربية من الموقف.
صعدنا كوبري، ونزلنا منه لأجد موقف ملوي أمامي، والميكروباص اللي عليه الدور ناقص نفر واحد، فقرر رفيقي أن يكون هو النفر وصعد إليه، وأغلق الباب في وجهي، وأخذت أنا الميكروباص اللي بعده.
في الطريق إلى ملوي، كنت أسلي نفسي بالفرجة على الزروع والبيوت والناس من نافذة الميكروباص، فوجئت بالصعيد بتاع زمان على حاله، لم يتغير فيه شئ، وكأني عبثت في اختراع الدكتور بصير في فيلم “سمير وشهير وبهير” وعدت للوراء أكثر من 30 عاما.
شاهدت أبراج السمسم واقفة على الأرض تستعرض سيقانها النحيفة، حتى يتم تجفيف المحصول، والمزارعين يجلسون وهم يقشرون الذرة بزيهم التقليدي؛ ويرتدون اللباس الصعيدي إياه، وأجسادهم مغمورة بالعرق خلف الفانلة التي فقدت لونها الأبيض من تأثير الطين ودرجة الحرارة، رأيت السواقي القديمة المهجورة، ورجل يركب حمارا يسوقه بالشومة، ويجلس على بردعة مصنوعة من صوف النعاج، وولد صغير يركب حمارا آخر بدون بردعة يسابق الريح على مدق ترابي، وقد تحول الحمار تحته من شدة الضرب إلى حصان رهوان، ورأيت البيوت المزخرفة بالألوان المبهجة، وخاصة الأخضر المفضل لدى الصعايدة.
كل ما حولي كان يذكرني بطفولتي، حتى الأسفلت المكسر الذي تنهبد عليه السيارات وهي تتقافز كالخنافس، ولم يشأ سائق الميكروباص أن يمنعني من معايشة اللحظة وهو يقوم بتشغيل الأغاني القديمة لعمرو دياب، ومحمد فؤاد.
أما أجمل ما رأيت فقد كان نساء ملوي بزيهم القروي المبهر، حينها عادت إليّ أمي بكل تفاصيلها، وعاد إليّ صوتها، وكنت أفتش بينهن عنها، من يدري؟!، ربما أكون فعلا قد انتقلت إلى الوراء بفعل آلة الزمن وأحصل على حضن أخير، وقبلة على يدها الخشنة.