الحضارة والحس التاريخي

عفاف عمورة | برلين 

        ما زالت نتائج الحروب المدمرة تلقي بظلالها على الذاكرة الإنسانية. وما تزال استحقاقاتها بما خلفته من تبعيات تحدث حالةً من فقدان الشعور بالاستقرار والطمأنينة، والخوف من المستقبل المجهول.
إن الفظاعات والمآسي التي جرت في الحروب المدمرة السابقة وتحديداً في الحرب العالمية الأولى والثانية. ناهيك عن الحروب الطاحنة التي شهدتها منطقتنا العربية مع البيزنطيين والروم والصليبين والعثمانيين وحروب المغول والتتر وحروب الاستعمار الحديث البريطاني والفرنسي والليبي والصهيوني والأمريكي في مصر وسورية ولبنان والعراق وليبيا والمغرب العربي وأثر تلك الحروب الذي لم يمحى من ذاكرة الشعوب العربية الحية.

      تلك الحروب بما فيها الحرب العالمية الأولى والثانية يعتبرها علماء الاجتماع وكبار السياسيين دروس وعِبَر، ويمكن أن تكون أفضل ضمان لدرء الحروب الجديدة التي يمكن أن تكون مدمرة للبشرية، وهذا يتطلب العمل على إطفاء نيران النزاعات والصراعات بالحوار العقلاني والتفاوض بالطرق السياسية والدبلوماسية والتحكيم العادل،على قاعدة إحقاق الحقوق الوطنية والقومية والإنسانية. بل البحث عن المنافع والاحتياجات ورعاية المصالح الخاصة والعامة للشعب العربي، وتعميق العلاقات الدولية والمجتمعية في إطار التعايش المشترك .
من جهتها مرت القارة الأوروبية خلال قرنين من الزمن بحروب طاحنة، كانت مسرحاً لحروب الإمبراطوريات والممالك والإمارات والطوائف والأعراق والأجناس والإيديولوجيات، فقد كانت الحرب العالمية الأولى والثانية قد خلّفت ملايين القتلى وملايين الجرحى والمعاقين والمشردين واللاجئين، وألحقت دماراً ماحقاً طال مدنها وقراها وبلداتها وبنيتها التحتية وأساليب حياتها ويوميات عيشها، وتراثها الإنساني والعمراني والحضاري.
لم يعد أحد في القارة الأوروبية التي تم وصفها بالقارة العجوز الضاجة بالحياة بكل مفاعيلها والحرية المتلونة بحيوية الفلسفة والفكر والآداب والفنون بأنواعها، يرغب في استرجاع الماضي الدموي الذي أهرقت فيه دماء كثيرة، أو أهدر رأي الأغلبية من الشعوب لحساب أصحاب القرار السياسي والعسكري، أو منحوا أصواتهم. لنواب في البرلمانات يتسابقون لتأييد إعلان الحرب والتعبئة العامة دون حساب العواقب، كما حدث في الحرب العالمية الأولى، التي أفضت إلى الحرب العالمية الثانية المدمرة، ولم يعد مقبولاً اختلاق الأعذار والتبريرات اللاعقلانية للحروب بادعاء أنها امتداد للسياسة وملحقاتها بوجه آخر، مع التشديد على أن قرار الحرب أخطر وأكبر من أن يُترَك للضباط والعسكريين فقط.

     لا أحد في العالم يدّعي أن أوروبا الحديثة والمعاصرة خالية من الشعبويين اليمينيين المتطرفين، والانفصاليين الذين تحركهم نوازع الشر والحقد التاريخي، والإيديولوجيات العرقية والدينية المتكلّسة، الذين لا يبالون بالعواقب الكارثية المدمرة لسياسة التطرف والحشد الجماهيري الغوغائي، لكن الأمر الإيجابي في أن أصوات العقلاء والمفكرين وأصحاب الضمائر الإنسانية الحية والمتنورين أعلى وأحكم وأقدر وأكثر قوة ودراية على قيادة الرأي العام، وتصحيح المسار الوسطي والتوافقي.
هذه العقلية الحداثية والعقلية المعاصرة ،والروح التصالحية الخلاقة، والنظرة الواسعة نحو المستقبل هي التي ألغت ودفنت نوازع الحروب ومسبباتها، ومهّدت الأرض الصالحة لاتحاد المواقف والمناهج السياسية والمنافع الاقتصادية المتبادلة، وفتح الحدود وإزالة الحواجز وتعميق الانتماء للقارة على حساب القطري والقومي والديني والإيديولوجي مهما تبدل وتنوع.
من هنا كانت الرواية وثيقة اجتماعية لها مدلولها العميق، فمن أجمل ما كتب في الحروب، روايتا (الحرب والسلام) للأديب الروسي الكبير ليو تولوستوي ورواية (ذهب مع الريح) للأديبة الأمريكية مارغريت ميتشل، وفي حقيقة الأمر فإنّ جوهر الروايتين اللتين كنات روسيا مسرح الرواية الأولى أثناء الحرب النابليونية الشهيرة، والثانية كان مسرح الرواية الثانية الجنوب الأمريكي خلال الحرب الأهلية الطاحنة التي أكلت الأخضر واليابس، ليست رواية (ذهب مع الريح) قصة حب
سكارليت أوهارا وهي شخصية خيالية أو ناتاشا روستوفا الكونتيسة ناتاليا “ناتاشا” إيلينيتشنا روستوفا وهي شخصية خيالية مركزية في رواية ليو تولستوي (الحرب والسلام) لعام 1869. كُتبتا في أثناء الحربين العالمية الأولى والثانية، بل النضج الذي ينمو ليصقل الشخصية الضعيفة والساذجة والتي يتم اللعب بها والسيطرة عليها لتصبح شخصية قوية تقف بكل قوة وشجاعة ضد الحرب ومآلاتها، وضد أن تسمح للأوقات الجنونية والظروف الصعبة بأن تطحنها، بل ترتقي بها إلى مصافٍ عالٍ من المسؤولية لتكون على قدر الحدث لإحياء قيم التسامح والعدل والحب الإنساني على قاعدة إحقاق الحق.
لقد مرّت البشرية بتجارب مريرة وعاشت كل أنواع الحروب وتعلمت من الدروس القاسية أن الحروب مثل الجريمة لا تفيد بل نتائجها تكون وبالاً على الإنسانية. والحروب مثل الدورات المتعاقبة تبدأ لتنتهي بواقع جديد وحال جديد، فهي تحمل في ثناياها وتضاعيفها واستحقاقاتها وقود استمرارها وفنائه ما يستوجب حتماً توقفها وإنهائها وإلقاء أوزارها وعواقبها. فجنون الدم لن يوصل إلى أي مكان آخر فيه الأمان والاستقرار.
لا معنى لاستمرار الحروب الأهلية الدامية التي تجري في العديد من الدول العربية إلا الافتقار إلى الحس التاريخي الحضاري والإنساني العميق ،والعقل المستبصر للعواقب واستحقاقاتها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى