القصدية البلاغية بين الحذف والالتفات “واخد قرار بالموت” للشاعر المصري حمادة إبراهيم

قراءة نقدية: د. حسن محمد العمراني | مصر – المنيا

محرابى كان مرسوم
من قبل نفخ الروح
كان قلبى لسه طين
لكن موارب ع السما


بهذه الكلمات يستهل الشاعر حمادة إبراهيم خطابه الشعري في باكورة قصائده في ديوان “واخد قرار…بالموت”، والصادر عن دار الأدهم للنشر والتوزيع عام 2019، ويقع في 87 صفحة.
ومحرابي كلمة توحي بالتخصيص والإيثار والإيواء والحماية، كونها مشتقةً لغوياً من الحرب، وتنطوي على النضال والمقاومة، مما يوحي بحتمية الصراع منذ الأزل ومحاولة الشاعر فض هذا الاشتباك بينه وبين قوى الشر في معترك الحياة، والسعي لإثبات الوجود وتحقيق الذات الإنسانية. وأما اصطلاحاً, فالمحراب يرمز للطهارة والقدسية، وقد درج العامة على استخدامه ليشير للعزة والمكانة الرفيعة، والترفع عن الزلل, تحقيقاً لنزاهة الذات، وحسن النية والعيش بمنأي عن الدنس والانحطاط والابتذال. ومن هذا المنطلق يمكننا الولوج لديوان حمادة إبراهيم “واخد قرار…بالموت”
وقد يتبادر للذهن عدة أسئلة منها: ما العلاقة الفرضية بين الموت وتلك المفردات كالحرب والشرف والطهارة والنقاء، من جهة. ومن جهة أخرى، لماذا وسم الشاعر ديوانه بمثل هذا العنوان، متخذاً قراراً بالموت، رغم كونه يمتلك كل الصفات السامية التي شكلت روحه قبل الوقوف على محك الواقع والمرور بدرج الغواية ومعالجة تفاصيل الموت؟ وممن ولمن صدر القرار أصلاً؟
قد تبدو هذه الأسئلة يسيرة من الناحية الظاهرية، فنجد مثل تلك التأويلات المسبقة بأن الديوان يتناول قضايا الوجود وخلق اّدم وغواية حواء والشيطان ومعركة الشر والخير وحتمية الموت، لكن الناقد البصير يلاحظ منذ الوهلة الأولى أن قصائد هذه المجوعة الشعرية تتضافر معا لتتجاوز مثل هذه التفسيرات المجانية، كي ترسم لنا بعداً أعمق، ورؤية فنيةً مغايرة، نستشف من خلالها أطروحات ذهنية ومفاهيم متداخلة، تحمل لنا الكثير من المضامين والدلالات الفكرية والإنسانية في المقام الأول.
وأهم عتبة- من وجهة نظري – للدخول إلى هذه المجموعة وغيرها – هو العنوان، وهى العتبة الأولى التي تُجمل لنا مقاصد النصوص. ولجعل العنوان مشعاً، يحمل دلالة قصدية وإرسالية إلى المتلقي، صدَّر الشاعر خطابه الشعري بكلمات ثلاث: “واخد قرار… بالموت”. وبالنظر لصفحة الغلاف يلاحظ القارئ وجود علامة الحذف في شكل نقاط متتابعة تفْصل جملة العنوان إلى جزئين: وهما كلمتي “واخد قرار” ثم نقاط الحذف ثم كلمة “بالموت”. وأكاد أجزم أن الشاعر عمد لصياغة العنوان بهذا الشكل كي يجعله موحياً، لما للعنوان من وظيفة إثارية أو إفهامية كما يقول رومان ياكبسن أو وظيفة تحريضية لاستجلاب إهنمام القارئ كما يذكر كلود دوشيه. فبجانب الاقتضاب والاختصار، وهو سمتان يحكمان العنوان غالباً، حرص الشاعر على تهيئة المتلقي نفسياً وذهنياً لفك رموز النصوص وتفسير ماهية قرار الموت باللجوء لهذه الظاهرة البلاغية وهي الحذف.
ولأن الأمر لم يتم اعتباطاً، فقد نجد الشاعر يلجأ لحذف حرف أو كلمة أو عبارة برمتها، لكن تظل القرائن الدالَّة علي المعنى ماثلة حتى يستنبط القارئ الناقد المضامين والرموز من ثنايا السياق. فالأصل في الكلام هو القصدُ، إلا أن الشاعر أراد- في تصوري- أن يحدث تفاعلاً دينامياً وتواصلاً خفياً بينه وبين المتلقي، وكأنه يريد أن يفضي له بمضمون القرار الذي كان قد فُرض عليه مسبقاً أو إتخذه عن اقتناع وتسليم ورضا: وهو الموت.
وأما عن قصائد المجموعة، طبقاً لورودها بالفهرست، فجميعها تقريباً تنتمي لهذا العنوان الجمعي، والمستنبط من عنوان إحدى القصائد، ومنها ” واخد قرار بالموت”، “قالوا كفر”، “وشم”، “سكرات”، “سواح”، “أنا مش ملاك” وغيرها. ومعظمها يدور في فلك متقارب، وكأن النصوص تتعالق وتتداخل معاً لتشكل تناصاً داخلياً مع عنوان الديوان الذي يدور حول فكرة إثبات الوجود والتطلع للخلود الروحي عبر المرور بقنطرة الموت. وهنا يبدو العنوان كاشفاً، لما له من علاقة دالة على النصوص المنبثقة عنه، كما يذكر الناقد جان ريكاردو.
في قصيدته ” واخد قرار بالموت”، ينفي الشاعر عن نفسه دنس الروح ومواتها، كونها تتلبسه قبل وجود الجسد وخلق الإنسان، ويتضح ذلك من السطور الشعرية الاّتية:
وماكانش لسة طبع آدم
اتحقن ف الروح..
ولا كان قابيل
مادد إيديه بالمقصلة…
ماتكتفتش أبدا يا روحي م العدم
مع إنى نقطة مية
سايحة لسة ف الملكوت…
وللماء طهارته وقدسيته. وهذه القصدية البلاغية في توظيف أيقونة الماء لها دلالتها اللغوية، حيث يوحي رمز الماء بالحياة النابضة، فالإنسان في أصله نقطة ماء ونطفة تعالج عوامل الموت، كما تعالج البيئة المحيطة عوامل التعرية. والماء له سيمائيته الخاصة، وهو مادة ثرية للبوح الفني على إمتداد العصور الأدبية: الجاهلية والإسلامية والحديثة، ولا سيما في رصد التجربة الشعرية الصوفية، إلا انه يرمز أيضاً للغموض والمطلق عندما يتطلب الأمر الغوص في الملكوت لاستكناه ماهية الوجود وتجليات الروح.
ونظرا لتأزم الصراع، وجد الشاعر نفسه واقعاً بين شقي الرحى: إما اللجوء للعصيان وتحدي القدر تشبهاً بفعل الشيطان، أو التذرع بروح الإيمان، والتسليم بحتمية القدر، وتقبل فكرة الرحيل هروباً من يقين الموت إلى الخلود بالروح، بعيداً عن شهوات الجسد ورتابة الواقع، ووصولاً لتحقيق السعادة المطلقة في العالم المتخيل الذي رسمة لنفسة في إطار شعري دينامي:
يادى القدر
ليك المحبة والرضا
لحظة وجودى كان
قدر أنا ما املكوش
وهنا يتبلور الملمح الرئيس في الديوان وتتضح السمة الغالبة التى تصطبغ بها معظم القصائد، وهي استعراض فكرة الخلود عبر المرور بقنطرة الموت، وليست معالجة موضوع الموت في حد ذاته. ولأن النص الشعري عند حمادة إبراهيم يُعد فضاء مفتوحاً على مختلف الأساليب البلاغية نجده سارحاً في ملكوت الروح هروباً من سلطة الموت. وحتى يتحقق له ذلك لجأ الشاعر للتمرد على سجن الذات بفعل حركة الواقع وقواه المناوئة، فسكن القصيدة، كي تمنحه نشوة الوجود وتطهره من درن الواقع، على حذ قول الدكتور عبد الناصر هلال، في كتابه ” الالتفات البصري”. وتحقيقا لذلك نجح الشاعر في تطويع النص واستغلال براحه التعبيري، موظِّفاً ما يسمي بالالتفات الشعري :
يا أرضنا …
يا قبلة العاصيين…
كرهت غدر الطريق
للمؤمنين بالنور..
وشرع اختيار البسمة
للمجبرين ع الموت
هذا التحول من مخاطبة القدر إلى التحدث مع الأرض، بوصفها المادة التي تشكل منها الإنسان جسداً، والحضن الذي يكتنفه روحياً في الحياة والممات، يلفت انتباهنا لفكرة تأنيب الاّخر ومحاولة شرخ جدار الواقع المُعاش وتفنيد مثالبه. واللافت للنظر أننا نجد الشاعر ينتقل كتابياً من شكل لاَخر باختلاف البنية البصرية للنص واختلاف الخطاب الشعري الموسوم بالحذف، مما يجعل النص مرنا ومفتوحا على رؤى وتفسيرات متعددة. فهو ينتقل من مخاطبة النفس إلى التحدث عن القدر ثم تجسيد صورة الأرض ثم العصاة، مروراً بتسريد القضايا كالظلم والجوع وفقدان الهوية إلى تشريح الذات الشاعرة فيقول:
لا الحلم يعشق خطوتى
طول ما الطريق ممنوع…
ولا فجر يطلع
من أنين المغصوبين ع الجوع
أمى اللى كانت … وصية على نور القمر
ماكانتش تعرف م الصلا ..
غير بسملة
ماكانتش تعرف م الإله ..
غير قدرته ع الحب…
هذا الالتفات اللغوي، البلاغي والتصويري والبصري، من حيث تشكُّل وإخراج الصفحة أو شعرية المكان- حسب وصف الدكتور عبد الناصر هلال- يجعل العبارات والسطور الشعرية تتراوح بين الطول والقصر، كإدوات فنية يوظفها الشاعر لكسر النمط والرتابة وتحقيق الإدهاش. هذا من جانب، بينما على الجانب الاَخر، تسمح للشاعر/ المبدع بالتحرك بأريحية لرسم ملامح تجربتة الشعرية والإنسانية بشيئ من الازدواج والتماهي، حتى تتحقق العلاقة التبادلية بين دوال النصوص التي تستقي مصادرها ودلالاتها من الواقع الثقافي والاجتماعي.
ومن المحاور الأخرى التي تسترعي انتباه القارئ الناقد هو إلى أي مدى أفلح الشاعر في تضمين العنوان بنصوص المجموعة وتضمين النصوص بالعنوان الرئيسي وعناوينها الخاصة بها. فمن خلال اَليات الاعتراض والاستدراك والعدول، وجميعها أوجه لمصطلح الالتفات، تمكن الشاعر من ربط القضايا ببعضها البعض. ومن الأمثلة الواضحة قصيدة “(قالوا كفر)”:
لاعاد يقر بدى بالحياة
ولا عاد مآمن بالقدر
حتى القلم عن علته مرفوع
قال ان عمره عمره ما ينتهى
قال انه غير الناس
ولا مرة خاف م الموت
لو تأملنا تلك السطور لأمكننا أن نقيم علاقة اعتبارية بينها وبين القصيدة السابقة ” واخد قرار بالموت”. حيث يتضح لنا أمران، وهما من الضرورة بمكان، يرتبط أولهما بالسؤال عمن اتخذ قرار الموت، والواضح أنه الإنسان الشاعر، كونه غير راضٍ بالحياة، كما يفسر لنا علة اللجوء لمثل هذا القرار. وأما الأمر الثاني، فهو انصراف المتكلم من مخاطبة نفسه إلى مخاطبة الغائب: فبدلاً من توظيف المفردات الذاتية مثل ” محرابي” و” قلبي” و ” وجودي” و” خطوتي” تحول الشاعر إلى الإخبار كي يتحدث عن الاَخر، وهو نفس الذات الشاعرة التي لا تأبه بالموت ولا تقر بالحياة. وهذه المفردات المتعلقة بالموت ومرادفاتها تلقي بظلالها على معظم نصوص الديوان، وتستحوذ على لب الشاعر ومخيلته. فلا تكاد تخلو منها أي قصيدة او مقطوعة شعرية وكأن القدر يعيد كرته، فيستحضر الشاعر الصور ذاتها كلما شدته نكبات الحياة للخلف:
كل الشواهد أكدت
هجرته ف روحه
كام ألف مرة يموت
ويشد دنيته من الخلف…
هذه المحاولات لبلوغ الخلود تحقيقاً لمقولة السيد المسيح ” طوبى للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السماوات”(مت 3:5)، تذكي شرارة الحركة الديالكتيكية في النص، حيث يتبنى الشاعر الأسلوب الدراماتيكي المسرحي لرسم أبعاد شخصياته وملامح الصراع. وبذلك يدرك الشاعر الظواهر المحيطة به والأحداث بشكل مغاير، ويوظفها بشكل لا يعترف فيه بالحقائق المطلقة أو بكل ما جرى العرف على تقديسه، بل يسعي لتصويب ما يراه ظاهرياً أو يشعر به. ومن ناحية أخرى، نجد الشاعر يتحول من المعنى إلى معنى المعنى فيلجأ أحياناً للحذف والالتفات، معتمداً على تغييب ما سيتولى القارئ إحضاره وتأويله في كل مرة يقرأ فيها النصوص، ويفسرها حسب الظروف التي تأسست فيها علاقته مع النص، فتتعدد الدلالات والمعاني. فعلاقة الإنسان بالحياة علاقة عكسية من حيث محاولته الفرار من موت الجسد إلى الحياة بالروح داخل محرابه “الموارب ع السما”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى