قراءة في المجموعة القصّصية” سأنزل في هذه المحطة ” للكاتبة جميلة شحادة
خالدية أبو جبل | فلسطين
(سانزل في هذه المحطة) صادرة حديثًا عن مكتبة (كل شيء)، في حيفا، وتضم بين دفتيها 22 قصة، تمتد على اتساع 128صفحة من الحجم الوسط.
” لم تعُد تخدعُني مسارح اللعب
مسارح تعرضُ كلّ دقيقة
كلّ لحظة،
كلّ ومضةٍ،
انتصارات الممثلين على المنصّة
تعرضُ انتصارات أبطال.. من حبرٍ ومن ورق
عبر شاشاتٍ تخطفُ صفاءَ الذهن والعقلِ
وتُشوش الحقيقة.. ووضوح المشهد،
يختلُّ ضغط دمي…
يختلّ وانا أشاهد عالمًا… غارقًا في الكذب
وأنا التي إن غازلَ النهارُ رمشها… تبعتْهُ الى الشّمس.”
من نص بعنوان” مسارح اللعب” جميلة شحادة.. نصٌّ يدُلُّ على شخصية كاتبة هذه المجموعة القصصيّة، فنراها إنسانة سئمت المجاملات والنفاق الاجتماعي وعافته، وانبرت لتكتب هموم مجتمعها وتضيء على قضاياه الملّحة، من خلال قصص قصيرة تصادفنا وتصادف الكاتبة كلّ وقت وحين، إلا ان حسّ الكاتبة المرهف جعلها تصوغ هذه القصص بقلم الوعي والادراك والمسؤولية، بلغة صافية خالية من الزوائد، لغةٌ تُقرّب ما بين لغة الكلام ولغة الكتابة، فجاءت معبرة مملوءة بالحياة.
ساعدتنا الكاتبة في الاطلاع على مساحة واسعة من حياة الناس، وما يدور فيها من أحلام واوهام وآمال، وقد شدّ انتباهي ان عددا لا بأس به من القصص ربطت بينهم الطفولة بشكل او بآخر ، (اريد ابنا، عطر الورد، ابني في غرفته، باقة من ازهار الاوركيد) مما يدل على نظرة الكاتبة المتفتحة للحياة، فالطفولة هي دورة الحياة اللامتناهية، وهي ما تُحفزّ الانسان على الاستمرار في بناء الحياة.
اتبعت الكاتبة في معظم قصصها نمطًا واحدًا في الكتابة، حيث روتْها دون ان تشارك في أحداثها، عدا قصة صديقتي ولكن…، وقصة المقعد الفارغ، حيث كانت الكاتبة ذاتها الساردة للقصة، وبطلتها.
وقد انتقدت في “صديقتي ولكن” مظهر من مظاهر حياتنا الاجتماعية التي غزتها مواقع التواصل الاجتماعي بصلف وجرأة، حتى باتت حياة الفرد كتابا مفتوحًا للجميع، ساقت انتقادها في قصة جميلة ذات نهاية مفاجئة كمعظم قصصها.
أما قصة المقعد الفارغ، فقد عبرت فيها عن مشاعر الفقد والوحدة في ظلّ الشوق والحنين من خلال إغلاقها لدائرة المقعد الفارغ الذي تراقبه كلّ يوم من شباك غرفتها، والذي كان يعني لها الكثير قبل فراغه، وبات الجرح الدائم، حتى التقت بمقعد آخر فارغ في عيادة العلاج الطبيعي، لانسان ألفت وجوده، لتكتمل صورة المقاعد الفارغة ، بايحاء حزين ان المقاعد ستفرغ يوما ممن نحبّ ونعتاد، ولكننا مستمرون بالحياة، كما استمروا هم.
امّا القصة التي حملت اسم المجموعة “سانزل في هذه المحطة” فقد جاءت مغايرة لباقي القصص بما حملت من مدلولات على قصّرها، والتي تحكي عن سيدة حاصلة على درجة الدكتوراة في التأريخ، اوقفت سيارة اجرة لتقلّها الى قاعة السعادة ،حيث عليها ان تقدم محاضرة بعنوان ” التاريخ يكتبه المنتصرون” وما كان من سائق السيارة الا ان سيطر على ذوقها في إسْماعِها التافه من الاغاني، ومن خلال التحكم بدرجة حرارة السيارة، حيث تجمدت اطرافها من شدة البرد ولم يُسعفها شالها الصوفي الخمري في كسب القليل من الدفء، فجاء قرارها حاسما، ان سانزل في هذه المحطة وانتظر حافلة الركاب.
هنا تنتهي القصة باختصار، قد يراها البعض قصة عادية تحدث كلّ يوم، لكن الكاتبة حملتها الكثير من الدلالات، على الاقل حسب قراءتي المتواضعة. فهل يمكن المرور مرّ الكرام على اختيار الكاتبه لموضوع التأريخ، ام انه جاء لينبش في تاريخ لنا له امجاده انتصاراته وخيباته وانكساراته، وهذا ما اشارت له الكاتبه من خلال الإشارة الى تعب الدكتورة في أبحاثها وبذلها الجهد في جمع المصادر من أماكن عدة في العالم، وهذه دلالة أخرى لمدى تأثير الدول القوية في تأريخ تاريخ منطقتنا ووطننا على وجه التحديد، ولهذا كانت محاضرتها ستكون بعنوان “التاريخ يكتبه المنتصرون”.
أما سائق سيارة الأجرة فليس سوى نموذج سيء حي لزعماء سيطروا على شعوبهم فأغروقهم بالتفاهات ‘ الموسيقى الهابطة مثالا، وعزلوهم عن العالم وحرارة التطور والتقدم
ليبقوا تحت رحمتهم، بدلالة خفض درجة المكيف الحراري لدرجة التجمد، أمّا الشال الخمري فلم يكن سوى التدثر بكلام ووعود المسؤولين المعسول، الذي لا يقي من حرّ صيف ولا برد شتاء، كان القرار الحازم، سأنزل في هذه المحطة، وانتظر الحافلة… قالت انتظر ولم تقل استقل الحافلة، مع انه مفهوم ضمنا.
إلا أن الدلالة أعمق من هذا فالحافلة تعني الكثرة ، تعني الشعب والانتظار يعني أن أملا ما يلوح في أفق البطلة والكاتبة معا، في تغيير كبير، في موقف موّحد يتمرد ويثور على وضع بلغ من السوء أكثره.
بالطبع لن آتي في هذه العجالة على كلّ قصص المجموعة، التي تناولت قضايا عدة كما اسلفت، وما كتبتُ هو ما رأته .عين قارئة ليس الا.