من مِشْكاةِ النبوّة: حديث جريج الراهب

د. خضر محجز

(1)

قال الإمام مسلم بن الحجاج في صحيحه: “حدثنا زهير بن حرب: حدثنا يزيد بن هارون: أخبرنا جرير بن حازم: حدثنا محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: لَمْ يَتَكَلَّمْ في المَهْدِ إلَّا ثَلاثَةٌ عِيسَى ابنُ مَرْيَمَ، وصاحِبُ جُرَيْجٍ، وكانَ جُرَيْجٌ رَجُلًا عابِدًا، فاتَّخَذَ صَوْمعةً، فَكانَ فيها، فأتَتْهُ أُمُّهُ وهو يُصَلِّي، فقالَتْ: يا جُرَيْجُ فقالَ: يا رَبِّ أُمِّي وصَلاتِي، فأقْبَلَ علَى صَلاتِهِ، فانْصَرَفَتْ، فَلَمَّا كانَ مِنَ الغَدِ أتَتْهُ وهو يُصَلِّي، فقالَتْ: يا جُرَيْجُ فقالَ: يا رَبِّ أُمِّي وصَلاتِي، فأقْبَلَ علَى صَلاتِهِ، فانْصَرَفَتْ، فَلَمَّا كانَ مِنَ الغَدِ أتَتْهُ وهو يُصَلِّي فقالَتْ: يا جُرَيْجُ فقالَ: أيْ رَبِّ أُمِّي وصَلاتِي، فأقْبَلَ علَى صَلاتِهِ، فقالَتْ: اللَّهُمَّ لا تُمِتْهُ حتَّى يَنْظُرَ إلى وُجُوهِ المُومِساتِ، فَتَذاكَرَ بَنُو إسْرائِيلَ جُرَيْجًا وعِبادَتَهُ وكانَتِ امْرَأَةٌ بَغِيٌّ يُتَمَثَّلُ بحُسْنِها، فقالَتْ: إنْ شِئْتُمْ لأَفْتِنَنَّهُ لَكُمْ، قالَ: فَتَعَرَّضَتْ له، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إلَيْها، فأتَتْ راعِيًا كانَ يَأْوِي إلى صَوْمعتِهِ، فأمْكَنَتْهُ مِن نَفْسِها، فَوَقَعَ عليها فَحَمَلَتْ، فَلَمَّا ولَدَتْ قالَتْ: هو مِن جُرَيْجٍ، فأتَوْهُ فاسْتَنْزَلُوهُ وهَدَمُوا صَوْمعتَهُ وجَعَلُوا يَضْرِبُونَهُ فقالَ: ما شَأْنُكُمْ؟ قالوا: زَنَيْتَ بهذِه البَغِيِّ، فَوَلَدَتْ مِنْكَ، فقالَ: أيْنَ الصَّبِيُّ؟ فَجاؤُوا به، فقالَ: دَعُونِي حتَّى أُصَلِّيَ، فَصَلَّى، فَلَمَّا انْصَرَفَ أتَى الصَّبِيَّ فَطَعَنَ في بَطْنِهِ، وقالَ: يا غُلامُ مَن أبُوكَ؟ قالَ: فُلانٌ الرَّاعِي، قالَ: فأقْبَلُوا علَى جُرَيْجٍ يُقَبِّلُونَهُ ويَتَمَسَّحُونَ به، وقالوا: نَبْنِي لكَ صَوْمعتَكَ مِن ذَهَبٍ، قالَ: لا، أعِيدُوها مِن طِينٍ كما كانَتْ، فَفَعَلُوا” (متفق عليه واللفظ لمسلم). أولاً: في درس الإسناد: حين قال الإمام مسلم بن الحجاج: «حدثنا زهير بن حرب» فمعنى هذه الصيغة أنه سمع منه مباشرة فماً لأذن. و«زهير بن حرب» هذا هو: الثقة الثبت «أبو خيثمة: زهير بن حرب بن شداد الحرشي». (160ه ــ 234ه). وقد سمع زهير هذا الحديث من يزيد بن هارون. و«يزيد بن هارون» هو الثقة المتقن: «أبو خالد: يزيد بن هارون بن زاذي بن ثابت الواسطي». (117ه ــ 206ه). ويزيد أخبره بهذا «جرير بن حازم». وصيغة «أخبرنا» عند الإمام مسلم تعني: «قرأ عليّ»، أو «قرأت عليه». و«جرير بن حازم» هذا هو: الثقة: «أبو النضر جرير بن حازم بن زيد بن عبد الله بن شجاع، الأزدي». (توفي عام 170ه) عاش في البصرة ثم مصر. سمع هذا من محمد بن سيرين. و«محمد بن سيرين» هو الثقة الثبت كبير المقام الإمام الحافظ: أبو بكر محمد بن سيرين الأنصاري مولى أنس بن مالك رضي الله عنه من كبار التابعين (3ه ــ 110)، من تلاميذ أبي هريرة، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وسمع هذا منه مبكراً قبل أن يصطلح الناس على أن العنعنة تحتمل غير السماع المباشر. فأنت ترى هذه السلسلة من الحفاظ، التي يحمل اللاحق فيها الخبر عن السابق، حتى يؤدي ذلك إلى من سمع رسول الله من أصحابه. وليس هذا الإسناد الوحيد لهذا الخبر بل ثمة أسانيد أخرى له في الصحيحين مما يجعل الخبر مشهوراً.

(2)

ثانيا في المعنى: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَمْ يَتَكَلَّمْ في المَهْدِ إلَّا ثَلاثَةٌ: عِيسَى ابنُ مَرْيَمَ، وصاحِبُ جُرَيْجٍ. وكانَ جُرَيْجٌ رَجُلًا عابِداً».
فها أنت ترى أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم أخذ في عرض قصة جريج، قبل أن يبين لنا من هو الشخص الثالث الذي تكلم في المهد.
والحقيقة أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد بين لنا من هو الثالث الذي تكلم في المهد، بعد أن أتم سرده لقصة الراهب جريج، فقال: «وبيْنا صَبِيٌّ يَرْضَعُ مِن أُمِّهِ، فَمَرَّ رَجُلٌ راكِبٌ علَى دابَّةٍ فارِهَةٍ، وشارَةٍ حَسَنَةٍ، فقالَتْ أُمُّهُ: اللَّهُمَّ اجْعَلِ ابْنِي مِثْلَ هذا، فَتَرَكَ الثَّدْيَ وأَقْبَلَ إلَيْهِ، فَنَظَرَ إلَيْهِ، فقالَ: اللَّهُمَّ لا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ، ثُمَّ أقْبَلَ علَى ثَدْيِهِ فَجَعَلَ يَرْتَضِعُ. قالَ: فَكَأَنِّي أنْظُرُ إلى رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ وهو يَحْكِي ارْتِضاعَهُ بإصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ في فَمِهِ، فَجَعَلَ يَمُصُّها. قالَ: ومَرُّوا بجارِيَةٍ وهُمْ يَضْرِبُونَها ويقولونَ: زَنَيْتِ، سَرَقْتِ، وهي تَقُولُ: حَسْبِيَ اللَّهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ، فقالَتْ أُمُّهُ: اللَّهُمَّ لا تَجْعَلِ ابْنِي مِثْلَها، فَتَرَكَ الرَّضاعَ ونَظَرَ إلَيْها، فقالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَها، فَهُناكَ تَراجَعا الحَدِيثَ، فقالَتْ: حَلْقَى مَرَّ رَجُلٌ حَسَنُ الهَيْئَةِ فَقُلتُ: اللَّهُمَّ اجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهُ، فَقُلْتَ: اللَّهُمَّ لا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ، ومَرُّوا بهذِه الأمَةِ وهُمْ يَضْرِبُونَها ويقولونَ زَنَيْتِ، سَرَقْتِ، فَقُلتُ: اللَّهُمَّ لا تَجْعَلِ ابْنِي مِثْلَها فَقُلْتَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَها». (متفق عليه. واللفظ لمسلم).
إذن فهم ثلاثة نعرف أولهم عيسى بن مريم الذي ذكر قصته القرآن، ثم جريج هذا الذي سنشرح ما صار معه، ثم الطفل الذي تكلم وهو يرضع من ثدي أمه. وسنشرح قصته بعد إتمامنا لحديث جريج.
يقول تعالى: ﴿وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾ (الأعراف/159).
ويقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ (المائدة/8).
فهذا الراهب من بني إسرائيل. وليس كلُّ بني إسرائيل كما علمكم الخطباء الحمقى، الذي يسمعون تُرَّهاتٍ فينقلونها لكم. ولو عدلوا لعلموا أن أعظم أمة تدخل الجنة، بعد أمة محمد هم قوم موسى. وقد سبق أن عرضنا لكم حديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي قال فيه:
«عُرِضَتْ عَلَيَّ الأُمَمُ، فَرَأَيْتُ النبيَّ ومعهُ الرُّهَيْطُ، والنبيَّ ومعهُ الرَّجُلُ والرَّجُلانِ، والنبيَّ ليسَ معهُ أحَدٌ، إذْ رُفِعَ لي سَوادٌ عَظِيمٌ، فَظَنَنْتُ أنَّهُمْ أُمَّتِي، فقِيلَ لِي: هذا مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ وقَوْمُهُ» (متفق عليه. واللفظ لمسلم).
فهذا جريج، وتلك البغيُّ التي سقت الكلب فشكر الله لها، وذلك الرجل الذي قتل مائة نفس وهاجر فانزوت له الأرض، والذي عنده علم من الكتاب، الذي قال لنبي الله سليمان صلى الله عليه وسلم حين طلب عرش ملكة سبأ: ﴿أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾ (النمل/40). وأولئك الربيون الذين قال الله فيهم: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾ (آل عمران/146). كل أولئك من بني إسرائيل، مثلهم كمثل قارون، والرجل الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها… إلخ والأمثلة لا تُحصى.
وإنما كفر بنو إسرائيل حين أدركوا رسالة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلم يؤمنوا بها.
وقبلهم أعداد كفرت بموسى وعيسى من بعده. أما جمهورهم فمؤمن مصدق بما في كتاب الله وبشائره. ولا حاجة لتذكيركم أنهم الآن كافرون معتدون، نقاتلهم لعدوانهم لا لكفرهم. فأما جريج هذا فكان من بني إسرائيل، من أولياء الله. وسنعرض لقصته بالتفصيل إن شاء الله، وأنسأ في الأجل، وشاء لنا أن نقول.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى