الغريبة

هبة شريقي | سوريا

لم يكن يصعبُ عليَّ أيّ أمرٍ في طفولتي، تقولُ أمّي إنّني وقفتُ في شهريَ السّابع وخطوتُ خطوتي الأولى في شهريَ الثّامن، لم أحِبَّ الزّحفَ يوماً، حتّى إنّني في عامِيَ الثّاني عشَر ارتديتُ حذاءً ذا كعبٍ عالٍ وفّرتُ ثمنَه خفيةً خصّيصاً لشِرائِه، وأذكرُ أنّني مشيتُ به بخفَّةٍ كأنّني معتادةٌ عليه منذ زمن! أصبحتُ تدريجيّاً أُعاني منَ ارتداء الأحذية الرّياضيّة وأكره اضطراري إلى ارتدائها عند ذهابي إلى المدرسة.

كانت زميلاتي في المدرسةِ الإعداديّة ينظرْنَ إليَّ كما ينظرنَ إلى طالبةٍ جامعيّةٍ، خاصّةً إذا التقَينا صدفةً خارجَ المدرسة وكنتُ أمشي بأناقتي المعهودة -وشعري الطويلُ مسدلٌ- بحذائي ذي الكعبِ العالي، حتّى إنّهنّ كنّ يتجاهلْنَ تحيّتي لهنّ مصدوماتٍ بمظهري، محْرَجاتٍ مِن منظرِهنّ الطّفوليّ قبالتي، خَجِلاتٍ أو خائفاتٍ أمامَ أمّهاتهنّ كوني زميلتَهنّ! علماً أنّني طالَما تفوَّقْتُ عليهنّ وطالَما شهدَ الأساتذة بتهذيبي وحسنِ سلوكي.

كنت الغريبةَ أينما حللتُ، في الشّارع، بين الجيران وعند الأقرباء، لا أدري لماذا كانوا ينظرونَ إليّ كأنّني أجنبيّة! وكان الصّغار منهم يعاملونني بندّيّةٍ كأنّ بيننا عراكاً خفيّاً أو كأنّنا في سباقٍ لإحراز هدفٍ لا أدري ما هو على وجه التّحديد!

ولاحقاً، عندما أصبحتُ في الرّابعة عشر من عمري تقريباً، أصبح الكبار يتصرّفونَ معي بغرابة، كنتُ أرى في وجوهِهم حرصاً كبيراً واجتهاداً مجهِداً كي يُلمِّعوا صورتَهم أمامي، فكثيراً ما طغَت المجامَلة على السّجيّة عندما يحدّثون بعضهم في وجودي، وكنتُ أرى السّعادة خالصةً على محَيّاهم إذا فعَلوا أمراً أو قالوا قولاً أثار إعجابي، وكأنّهم يستعرضونَ أنفسَهم أمامَ كائنٍ قادم من كوكبٍ آخَر!

كان أبواي سعيدَين دائماً بتميُّزي، وصديقتي المقرَّبة تفتخر أمام صديقاتها وزميلاتنا في الثّانويّة بأنّها تعرف أسراري كلّها وبأنّني أنام في بيتِها أحياناً وتذهب رفقتي وأهلي مشاويرَ خارج المحافَظة، ولمْ أدرِ سبب ذلك كلّه حتّى اللّحظة!

اعترفتْ لي مرّةً بأنّها تستخدمُني لإثارة غيظ إحداهنّ ظانّةً أنّني سأفرح بذلك، فجاءَها ردّي صادماً حين قلتُ بعنفٍ وقد انتفضتُ واقفةً بعد جلسةٍ مليئةٍ بالهناء:
– ماذا تعتقدين نفسَكِ؟ بهذه البساطة كلّها تشنّينَ لي حرباً معها دونَ علمي! ألهذا السّبب امتنعتْ عن ردّ تحيّتي وأصبحتْ تنظر إليّ باشمئزاز؟ تافهة!

انتفضتْ بدَورها واقفةً وقالت:
– أستحقُّ هذا التّوبيخ فعلاً.. جعلتُ منكِ طاووساً.. على ماذا؟!

قلت:
– اسألي نفْسَك.. أنا لم أفعل شيئاً.

خرجتْ من بيتي غاضبةً تقسمُ أنّها لن تعود، لكنّها عادت مساءً واعتذرتْ.

أدركتُ لاحقاً أنّ اعتذارَها كانَ من باب عدم الإحراج لها أمام زميلاتنا في الصّفّ، فصعبٌ ومحرجٌ أن لا تبقى صديقتي، أمامَهنّ على الأقلّ، بعدَ أن رسمت لهنّ تلك الصّورة عن علاقتها بي التي كانت مدعاةَ اعتزازٍ بالنّسبةِ إليها.

كنتُ أسعدُ أحياناً بهذا التّميُّز الذي لا أعرف كنهَه حتّى اللّحظة، لكنّه أرهقَني حقيقةً، شكّل حولي هالةً خانقةً تبعِدُني عن محيطي الذي أحِبّ، ببساطته التي أُحِبّ والتي لا تختلف عن بساطتي البتّة، لكن مَن يُقنِعهم بذلك وكلّما اجتهدتُ في محوِ بعضٍ مِن هذه الهالة أراهم يُعيدونَ رسْمَها بتلقائيّةٍ مرعِبة ومثيرة للغضب!

وجدتُ في قراءةِ الكتب أنيساً لي في وحدتي المفروضة عليّ رغماً عنّي، فأصبحَ لي عالمٌ أنتمي إليه ولي فيه أصدقاء، أعداء، جيران وزملاء حتّى! اختبرتُ فيه مشاعرَ لم أختبرها في عالمي الواقعيّ، فكنتُ أمّاً حيناً، وحيناً زوجةً، وآخر عشيقة، وغيره خادمة، حتّى إنّني اشتركتُ مع عصابةٍ ترأّستُها في السّطوِ على مصرف مركزيّ! وكنت أتفاعل مع الأحداث لا كأنّني أشاهِد فيلماً يُعرَض في شاشةٍ ضخمة في السّينما، بل كأنّني أُشاهَد فيها من قِبَل أفراد عالَمي الواقِعيّ!

هكذا انزويتُ على نفسي وأصبحتُ غيرَ شاعرةٍ بما يدور حولي في عالمي الواقعيّ، لا يحزنني موتُ أحد ولا يعني لي شيئاً زواجُ أحدهِم أو إنجابُ إحداهنّ، حتّى الحرب في بلدي لم تعْنِ لي الكثير، كنتُ أتعاطفُ فقط، وأحياناً، عندما أحنّ إلى عالمي الواقعيّ وأعود إليه فأراه على هذا النّحوِ منَ القتل والخراب؛ أبكي كثيراً وأدخلُ في حالةِ اكتئابٍ ترافقني أيّاماً أو أسابيع، ولا يستطيع عالَمي الافتراضيّ انتشالي منها، وكنتُ أدخلُ في مَتاهةِ تحليلٍ لا تعنيني: مَن على حقّ؟ ومَن المُخطِئ؟ مَن الظّالم؟ ومَن المظلومِ في حرب كهذه؟ شعرتُ بأنّ عليّ أن أتّخذَ رأياً فيها على الأقلّ، سواء كانَ مُعتنَقاً أم نابعاً من تحليلٍ شخصيّ, بالطّبع لم أفلحْ.

بعدَ طول انزواء ظننتُ أنّني لا بُدّ أصبحتُ أبدو عاديّةً جدّاً في نظرِهم؛ خرجتُ إلى عالمي الواقِعيّ مسرورةً، أمشي بحذاءٍ رياضيّ، رابطةً شعري الطّويل، لا أضعُ زينةً على وجهي، إلّا أنّهم تغيّروا جميعاً، تقدّموا كثيراً وتعالوا أكثر!

اليوم، كلّما نظرَ إليّ أحدهُم أرى هالةً تُرسَم حولي، هذه الهالة نفسها التي تفصلُني عنهم وتميِّزني، لكن بطريقةٍ أخرى هذه المَرّة، إذ أصبحتُ أفخرُ إن ألقى أحدهم عليّ التّحيّة!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى