مواقيت الصمت والكلام أيضًا
سامي فريد | كاتب صحفي وأديب مصري
يهدي الكاتب الروائي خليل الجيزاوي روايته مواقيت الصمت إلى ولده وجيله مُتمنيًا أن يكسروا أصوات الصمت العالية؛ ويقول شاعر من جيلنا مُخاطبًا حبيبته:”لا تقولي أي شيء، ربما أجدى السكوت؛ ولنجرب لحظة الصمت ففيها ألف معنى لا يموت، الصمت إذن ليس صمتًا فارغًا.
إنه صمت مشحون بطاقات التعبير والقدرة علي التغيير والتوجيه، يقول لقمان الحكيم يعظ ابنه: إذا افتخر الناس بحسن كلامهم، فافتخر أنت بحسن صمتك، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: الساكت عن الحق شيطان أخرس، ويقول أيضًا: من رأى منكم منكرًا… إلى آخر الحديث.
للصمت إذن مواقيت كما للكلام أيضًا مواقيت؛ لكن متى يكون الكلام مُجديًا، ومتى يكون الصمت أكثر جدوى، من خلال عمل روائي كبير القيمة يحاول خليل الجيزاوي أي يضع إجابة السؤال من زاوية نظر مزدوجة لشخصية التوأم هند وهبة، لا تعرف من صاحبة السرد والحكي، في الحي الشعبي تعيش واحدة من التوأم التي تبحث في قضية أولاد الشوارع؛ لتكتب منها رسالتها للدكتوراه التي تسافر من أجلها إلى باريس، ثم تعود، وتعرف قصتها مع الأب الذي تصوف وعاش في السيدة زينب، وإن تمسكت زوجته بالحياة في الحي الأرستقراطي، وتعود هند أو هبة إلى بحثها، ونتعرف من خلالها على العديد من شخصيات أولاد الشوارع في لوحات كالتقارير: سؤال وجواب لنرى صورة كأنها البانوراما لجانب من حياة مجتمعنا، ربما لا يراه كثير مِنّا، ونتعرف على شخصية محمد جنينه أحد أبناء الشوارع الذي يحترف مهنة غريبة يدافع من دخلها عن هؤلاء المشردين الذين عاش حياتهم يومًا ما، ويضع الجيزاوي يدنا على الحقيقة الصدمة، فكلنا مهزومون، تائهون، مشردون، كلنا أولاد الشوارع التي شهدت هزائمنا وانكساراتنا وضعفنا وأحلامنا التي انفرط عقدها بطول الشوارع التي مشيناها، على لسان الأب في الرواية يسألنا خليل الجيزاوي:
هل حاول هؤلاء الذين يخططون للصمت المميت التفكير في الصمت الآخر الذي يتحرك غاضبًا في كل الأمكنة، وهو صمت يصفه المؤلف بأنه شمولي وصاخب في مجتمع مهيأ للانفجار؟!
وتتراوح لغة السرد في الرواية بين فصحى جميلة وجليلة وعامية موجبة قادرة على حمل المعاني إلى غاياتها؛ ليصنع المؤلف من خلالها وبشخصيات تكاد تكون ملتبسة وفصامية ذلك العالم الزاخر بالنماذج الحائرة بين الفصام وازدواج الشخصية، الأمر الذي يفسح مساحة واسعة لعديد من التأويلات، ويُضفي جوًا من الغموض المحبّب إلى ذلك العمل البديع الذي يضيفه المؤلف إلى سلسلة إبداعاته المتميزة، ويتساءل الجيزاوي في نهاية عمله ونتساءل معه: هل حانت مواقيت الكلام بعد أن طالت أكثر من اللازم مواقيت الصمت؟! سؤال لا نتوقع له إجابة قريبة!