حكمة التسخير بين الإنسان والكون

بقلم: محمد عبد العظيم العجمي
التسخير: هو التذليل، وهو قهرية شيء لشيء بلا مقابل، وفرق بين (سخر له )، و (سخر عليه)، فالأولى للمصلحة والمنفعة، والثانية للعقاب والعذاب.. قال الله “سخرها عليهم سبع ليا وثمانية أيام حسوما” الحاقة.. والله قد منّ علينا بتسخير ما في السموات والأرض” وسخر لكم ما في السموات والأرض جميعا منه”، “وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر”، ” والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة “.
لكن كيف يمن علينا الله بتسخير الليل والنهار، والشمس والقمر، وليس ثمة تذليلا ولا قهرية للإنسان عليها؟! بل الإنسان إن شئت فهو مقهور لها، منضو تحت سطوتها، ممتثل صاغر لناموسيتها لا يملك فكاكا، ولا يستطيع هربا “يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33)”[الجن].ونرى هذا في قول طرفة بن العبد:

أرى العيش كنزا ناقصا كل ليلة
وما تنقص الأيام والدهر ينفد

وقول النابغة الذبيانيّ:

كليني لهم يا أميمة ناصب
وليل أقاسيه بطي الكواكب

لكن التسخير فيما لا يملك الإنسان قهره، هو تسخير مصلحة وانتفاع واستفادة، فالله جعل لنا الشمس والقمر”هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5)[يونس].، وكذا النجوم للاهتداء بها في ظٌلَم البر والبحر كما ذكر في سورة [الأنعام] دون أن يجعل للإنسان عليها سبيلا، وجعل لنا الليل لباسا “وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47)” كما ذكر في سورة الفرقان، وجعل “الليل لباسا والنهار معاشا” كما جاء في سورة النبأ.
وفي سورة القصص وبأسلوب الطي والنشر، أو الإجمال والتفصيل فيما تحدث عن الليل والنهار في قوله: وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73)[القصص]، فجمع الليل والنهار، ثم ترك لعقل القارئ أن يلحق كلا بما يخصه.. فالسكن لليل ، وابتغاء الفضل للنهار، وذلك بعد أن هدد الناس بأن افترض سرمدية الليل أو سرمدية النهار.. إن جعلها الله كذلك، فلا يستطيعون لها تبديلا ولا يملكون أن يأتوا بالليل بعد النهار، أو بالنهار بعد الليل.
فمطلق التسخير ــ إن كان ـــ هو تغرير بالإنسان وإيحاء له بالاستعلاء والاستكبار، وبعض التسخير حكمة ورحمة ومنفعة.. وعين الحكمة أن يكون من نفس المسخر المستفاد تهديد وتخويف وتوعيد، ففي سورة ص يقول: “أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)”، وفيالقيامة يقول:”فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10)“، وكذا في سورة القمر”فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12)”.
فعين المسخّر هو عين المعذب به، ومن باطن الرحمة يتفجر أحيانا العذاب، ومن قلب الأرض هذه التي أخرجنا منها وإليها نعود، وهي بمثابة الأم للإنسان، وتفجرت منها العيون ، وأجريت في وهادها الأنهار والأشجار؛ لكن قد يأتي من باطنها الخسف كما جاء لقارون “فخسفنا به وبداره الأرض”، ومن ازدهار النعيم وبهجة العطاء، وتفتح الجنان وجريان الماء وإثمار النخيل وهفيف الأشجار والأغصان، قد يطوف طائف من ربك ، أو يرسل حسبانا من السماء، فينقلب البصر حسيرا، والقلب كسيرا ، يقلب الإنسان كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها.
وإن في ضرب الأمثلة لمن سبقوا لمنتهى الرحمة ، وعين الموعظة ، وخلاصة التذكرة.. فالإنسان مجبول على النسيان والغرور، وهو بطبعه على جبلته “ظلوم جهول”، إذ يحمل فيذّكر وقت التكليف، وينسى وقت الأداء .. وهو حين يمنّ عليه بالنعمة “هلوعا، منوعا”، وحين يسلبها “جزوعا”، لكنه بين هذه وتلك ذاكرا أحيانا، شاكرا حينا، فكان من عين رحمة المنح أن توقط فيه روح الشكر، وتوعظ فيه مغبة الغدر، وتوعد فيه جزاء البطر والنكران والكفران.
فأي عين تلك التي تحوطه وتشمله، وتحمله وتجزيه، وتربيه وتصلحه.. إنها عين العناية والرحمة والقدرة.. إنها عين “ولتصنع على عيني.. فإنك بأعيننا.. إن الله بالناس لرؤوف رحيم.. إن ربكم لرؤف رحيم”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى