الهوية الوطنية الحاضنة للهويات الفرعية

بقلم: د. عماد خالد رحمة | برلين

جميعنا يعرف أنَّ الهوية الوطنية هي الهوية الحاضنة للهويات الفرعية والضابطة لتراتبيتها ونسقها .لذا يخضع تكوين الهوية للعديد من السياقات، فالهوية -أي هوية – تتراجع أو تنكفئ أو تنمو وتتطور تبعاً للسياقات الاجتماعية والثقافية والنفسية والاقتصادية ،ولا يمكن فهم الهوية الا بمقدار التقدير والنظر للآخر والعلاقة معه، والهوية في حالة حراك ونمو وتطور مستمر، بصفتها مكوناً مركباً أو معقّداً وليس بسيطاً، تُحَدَد هرميتها ومستوياتها تبعاً للسياق العام فتطفو هوية احياناً وتطغى وتمارس السلطة، بينما تندثر هوية أخرى وتتلاشى وتخبو.

الجدير بالذكر أنَّ الهويات الفرعية تبرزها وتذكيها النزاعات والصراعات التي يمكن أن تدور بين بعض الأطراف، ولا يخفى على أحد أنَّ الدولة الحديثة معنيةٌ بشكل كبير في ضبط ايقاع نمو الهويات الفرعية وهرمية تراتبيتها ومستوياتها، فالدولة الحكيمة التي تملك منظومة تفكير عقلانية تعظِّم الاستفادة من النسج والتماسك الافقي لتكريس وتعزيز الهوية الوطنية ودورها وأهميتها، فمع إنشاء الدولة الوطنية في الدول العربية، اُستحدثت علاقة جديدة أساسها وأرضيتها المواطنة والدستور والقوانين والتشريعات الناظمة لشؤون الوطن المستحدث والمكون بطريقة إدارية ومؤسسية. وهذا كله غريب على الثقافة العربية وإرثها التاريخي المعتاد على سطوة أغلبية الدين أو المذهب أو العرق أو الجنس أو القبيلة ، لذلك كانت الهوية الوطنية ضحية أي ضعفٍ أو إضعاف لمؤسسات وإدارات وهيئات الدولة الوطنية وظهورالهويات القاتلة المتصارعة والمتقاتلة على أرضيات مختلفة، منها التناقض المفترض بين الهوية الوطنية التي هي الهوية الكبرى أو الهوية الأساسية والهويات الفرعية الصغيرة – كالهوية الدينية مثلاً – أو الرفض الثقافي لفكرة الدولة بكل مقوماتها ومكوناتها كمفهوم غربي وافد على الثقافة العربية.
ففي كل مجتمع ولدى كل أمة أو شعب أكثر من تاريخ.وهنا لا مجال للحديث الطويل عن التواريخ الفرعية، أي تلك الهويات الخاصة بتاريخ دين أو طائفة أو مذهب، أو قومية، أو عرق، أو منطقة جغرافية محدّدة ما في مجتمع من المجتمعات، حين يعتني بعض المتخصصين والمهتمين بالتاريخ بدراستها وتأويل معناه ومبناها، وفي حالات كثيرة يكون هؤلاء الدارسون المتخصصون من المنتمين إلى أصحاب تلك الهويات الفرعية، محمولين على الرغبة الشديدة في إظهار ما يرونه صفحات تخصّ تاريخ الجماعة أو المنطقة وتبيان عاداتها وتقاليدها ودينها ولغتها الأصلية التي ينتمون إليها، ولكنها مغيّبة تماماً عن التاريخ الجمعي العام بقصدٍ أو بدون قصد.
قد تكون دوافع مثل هذا الاهتمام الكبير بكتابة التواريخ الفرعية وأحداثها اليونية وتفصيلاتها ومفاصلها منطلقة من الرغبة في إثراء التاريخ الجمعي وإغنائه للبلد الذي يضمّ مكوّنات متعدِّدة ومختلفة، وقد تكون نابعة أيضاً من الرغبة الشديدة في تسليط الضوء على القهر والحرمان والظلم أو أوجه تهميش واستبعاد لحقت بالجماعة الفرعية المعنية أو بالمنطقة المعنية، وقد تكون هذه الدوافع منطلقة من عقليةٍ خاصة ومن أفكار لها أهمية قصوى عند الجماعة الفرعية أو تكون منطلقة من الرغبة في إبراز خصوصية التاريخ الفرعي المعني وتفصيلاته ، تمهيداً للقول إنَّ أهل هذا التاريخ الفرعي وصانعوه هم خارج التاريخ الجمعي العام، وإنَّ من حقهم نيل الاستقلال والانفصال عنه بأي شكلٍ من الأشكال.
الجدير بالذكر أنَّ مفهوم المواطنة لم يترسخ في عقل ووجدان ودواخل المواطن العربي، ولم يستطيع استيعاب الفكرة القائلة بأنَّ إنشاء الدولة الوطنية وطناعتها أصبحت الرابطة الوطنية ، وما يترتب عليها من علاقات واسعة ومتشعبة، هي الأقوى بين أفراد الشعب الواحد والوطن الواحد .

ولم تعد هناك مفاهيم الأقلية والأكثرية، ومصطلح التسامح والتراضي، والتجاوز مع أي مكوِّن وطني مقبولاً أو مناسباً في الدولة الحديثة أو الدولة المعاصرة ، فالمواطنة ليست منة الأكثرية الساحقة على الأقلية مهما كانت نوازعها، وعليه فإنَّ الهويات الفرعية الدينية والطائفية والمذهبية والعرقية والعشائرية والقبائلية تصبح هويات روحية وثقافية واجتماعية داعمة للهوية الوطنية الجامعة لكل المواطنين دون انتقاص من أحد، فلا تناقض ولا تضاد ولا تعارض بينها جميعاً وبين الهوية الوطنية الجامعة .
إنَّ فهم الوظائف والمهام والأدوار للهويات الفرعية واحترامها والمساعدة العملية الفاعلة في تنميتها، و تصفيف منهجها وأسلوب حياتها وتطورها وتراتبيتها ضمن الهوية الوطنية الجامعة، كفيلٌ بأن لا تتحول وتطغى أيَّ هويةٍ فرعيةٍ الى هوية قاتلة نابذة وليست جاذبة ،لها خصائصها العنصرية المميزة لها، بل على العكس تصبح مصدراً للإثراء اللغوي والثقافي والاجتماعي المعزز والمحرك القوي لقوة الوطن ومنعته وبقاؤه ورفعته. وهذا بلا شك يتطلب عملاً مستمراً دؤوباً ومتواصلاً من قبل النخب الثقافية والفكرية والسياسية، بقيادة مؤسسات وإدارات وهيئات الدولة، لابتكار الأفكار والمفاهيم والطرق العمليَّة لدمج الهويات الفرعية الصغيرة وتسطيحها تحت عباءة الهوية الوطنية الشاملة مع احتفاظ كل هوية فرعية بتمايزها وخصوصيتها وتكوينها وتطلعاتها المشروعة الذي يكفله لها الدستور.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى