أعلم من أين أوتيتُ
خالد رمضان | كاتب مصري
يروى عن الإمام محمد ابن سيرين أنه كان يتاجر بالزيت، فكانت حياته بين العبادة، والتجارة، فاشترى ذات مرة وعاء كبيرا من جلد به زيت بأربعين ألفا مؤجلة يدفع ثمنها بعد عام، وقسم ذلك الوعاء إلى ٱنية صغيرة، ففتح واحدة فوجد فأرة مفسخة من شدة التعفن، فقال في نفسه: لابد أن هذه الفأرة وقعت في الوعاء الكبير قبل أن أقسمه، فتنجس الزيت كله، فإذا أنا رددت ذلك الزيت للتاجر فقد يبيعه وبه نجاسة، ولا يجوز لي أن أبيع أنا شيئا نجسا، فما كان منه إلا أن سكب الٱنية كلها، واستدان حتى دخل السجن .
الشاهد في هذه القصة أنه قال إثر هذه الحادثة:
أعلم من أين أوتيتُ، ذنب ارتكبته منذ عشرين سنة وأنا أنتظر عقوبته .
ترى ما هذا الذنب المقيت الذي يذكره ولا ينساه!
تأمل يقول : عيرت رجلا قلت له: يا فقير .
أي ذنب هذا الذي ينتظر عقابه؟!
وكيف يستطيع أن يذكره ولا ينساه ؟!
يعلق أحد العلماء على هذه القصة فيقول : قلت ذنوب القوم فعرفوها .
هذا الأمر ليس محل عجب من رجل كهذا عرف بالتقوى والورع،فهو محمد ابن سيرين، أبوه هذا كان عبدا لأنس بن مالك رضي الله عنه فأعتقه، وزوجه من صفية خادمة أبي بكر الصديق، فأنجب منها ثلاثة أبناء، منهم محمد هذا .
وصل هؤلاء إلى ماوصلوا إليه بسبب تقواهم وورعهم.
أما نحن الآن فحالنا يرثى له، فقد غاصت قوائمنا في بحار المعاصي، وبلغت ذنوبنا عنان السماء، فابتلانا الله بالوباء، والغلاء، فلا تسمع إلاضجيجا، ولا ترى إلا نحيبا، هذا يشكو نار الغلاء، وٱخر يشكو فقد الهناء، وذلك يئن من شدة الشقاء .
قال تعالى: “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال “
يروى عن الإمام علي بن أبي طالب أنه قال : ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة.
ويروى أيضا عن نبي الله موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام أنه خرج ومعه قومه يصلون بصلاتهم يرجون أن يمطروا، فأوحى الله إليه: أن يا موسى إن بين ظهرانيكم عبدا عاصيا، مره يا موسى أن يخرج حتى أنزل المطر، فخطب موسى في قومه: ألا فليخرج هذا العبد العاصي الذي حرمنا القطر من السماء بشؤم معصيته، فتاب الرجل بينه وبين الله فنزل المطر في الحال.
كل هذه أدلة على شؤم المعصية، ومحوها البركة من حياتنا.
لقد ساءت حياتنا، وقلت حسناتنا وكثرت عيوبنا، فقلما أن تجد تاجرا أمينا، أو شابا حصينا، أو شيخا رزينا، بل كاد ينطبق علينا قوله تعالى: ” ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه “
فإذا أصيب القوم في أخلاقهم
فأقم عليهم مأتما وعويلا
وإذا النساء نشأن في أمية
رضع الرجال جهالة وخمولا
نحن لا نستطيع أن نعمم أحكاما، ولا أن نطلق نحو الجميع سهاما، فالدنيا ما زالت بخير، إنما نذكر أنفسنا وإياكم بتقوى الله، ونحذر من مغبة الأمور، وسوء المنقلب، كي يشد بعضنا بعضا، فنركض وراء ذنوبنا ركضا حتى نستطيع محوها والقضاء عليها، وحديث السفينة خير دليل على هذا، فكما قال صلى الله عليه وسلم: لما أصاب قوم سفينة فسكن أحدهم أعلاها، وأحدهم أدناها، فإذا أراد من بالأسفل أن يشربوا صعدوا للأعلى، فقالوا في أنفسهم : كيف نصعد للأعلى ونحن بجوار الماء، فإذا خرقنا خرقا لشربنا وما تعبنا، فقال صلى الله عليه وسلم: لو تركوهم لهلكوا، ولهلكوا معهم، ولو أخذوا على أيديهم، لنجوا ولنجوا معهم .
وقال صلى الله عليه وسلم: المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا.
ويقول الشاعر:
تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسرا
وإذا انفردن تكسرت ٱحادا