أدب

جان كوكتو.. من لبوس السريالية وصخبها إلى الأورفيوسية الإغريقية

Jean Cocteau 1988 - 1963

بقلم : عماد خالد رحمة ـ برلين

شاعرٌ متشابكٌ يعيش شِعرَهُ بقلبِهِ بدلاً من أن يصوغَهُ في صقيع العقلِ، أو ينتهي به في هنيهة تَرَف. هو شعرٌ صافٍ فيما هو للجمالية والعَروض، تعرّى شعره من الزخرف البياني ، ومن الغنائية الشائعة، متجمعاً على ذاته، بالرغم مما يبدو عليه من تحررٍ وانطلاق، كأنما هو لا يرغب في أمرٍ عدا العري الأدائي. فقد ألهبَ حِسَّهُ حتى التآكل، كأنما هو النجمة التي تتألق لفرط ما هي متجمعة على ذاتها؟ عبارته الشعرية هي أكثر من عارية، إنها مسلوخةٌ حيَّةً ، فمخالعها وأعراقها وعضلاتها بادية للعيان كحوريات الجنان. وثمة في العمل الذهني العجيب حيث يختلط القَدَر بالأناقة، نَخالُ أنَّ العالم بقطبيته يتفحّص طريق الإنسان، إنه الكاتب والشاعر والمسرحي، والروائي، والسيناريست، والرسام ،والنحّات والموسيقي والمخرج الفرنسي جان كوكتو الذي أبصر النور في 5 تموز سنة 1889 في ضاحية ميزون لافيت بباريس. متحدِّراً من أسرةٍ باريسية برجوازية، له أختٌ وأخ: (مارت) و(بول) هو الذي سيصبح إلى الفوضوية أقرب، كأنما لنفسيِّة الفنان إمْرةٌ لا تُقاوَم . ومرده ارتباط جان كوكتو بأمه ارتباطاً وثيقاً بعدما رحل والده إثر انتحاره برصاصة مدوِّية في رأسه ، وهو في التاسعة من عمره. وهو الذي حاول من خلال الشعر الذي شرع في كتابته مبكراً أن يملأ الفراغ الذي تركه والده. فكان من النعومة بحيث يسبغ النُعمى، كأنما شِعرَهُ حنينٌ دائم ، موصول النَفَس، متصل بنياط الفؤاد، لا يرتفع إلى درجة الصياح ولا يخفت إلى درجة التمتمة . إنه صوره تامة لما أسماه النَقَدَة (نهاية قرن) أو نهاية حضارة بلغت النهاية في التأنق والرفاه . هذا ولأنه شاعرٌ ،فهو حرٌ، حريته طليقة إلّا من قيودها الذاتية. ذلك يعني أنه وليدُ ذاته، لا على فوضوية ٍ وتشويش، ولكن على صرامة لم يهادن معها ولم يُضَحِّ لسليقته الجامحة. فهل انغلق على نفسه؟ كلا، بل إنَّ انفتاحيته لا تعرف الحدود. فالشاعر هو الذي يؤلف بين كل حضور خارجي وبين كينونته الخاصة. لذلك كان شعر كوكتو ، حميمياً ومنفتحاً على الإسطارات في آنٍ واحد، لأنَّ الإسطارات إنما هي التعبير الأعم عن وجدان الأزمنة والأمكنة كلها . يُعبِِّرُ عن انتظاراته وتعرجاته ضمن هذا النصِّ المتألِّق والذي جاء بعنوان :(النجمة التي تتألَّق). (كان ينتظر الليلة الليلاء، وعندما كان يحل الشريط الذي تعريجُهُ يكوِّنُ مظاهرهُ التي لا تُحصى، دون أن يُغفِلَ تعريج المحْجرَيْن والحاجبين والمنخرين والأذنين والشفتين، قلتُ كان هذا التعريج بانتظام تعريجاً أطول من نهر وأصلب من الفولاذ ، وأشدُّ ليانةً من الحرير) .
ولأنَّ جان كوكتو يحكُّ بظفْره بَشَرةَ العالم، هذا الغلاف الذي تختبئ وراءه جذور النَّفَس ، فيضيف إلى ما في الطبيعة والواقع عوالمَهُ الذاتية الحميمية، وإذا بالعالم من بعده أغنى منه قَبلَهُ وأكثر بساطةً في مجالات العيش .وهو الذي كتبَ قصيدةً حملت رائحة شاعر ملهم بعد عودته من الجبهة بعد أن كان في صالات (الميوزكهول) يصدح. قال: (والآن وأنا أعود إلى البحيرة، ألتحم بشفتيها، أنا نحنُ وأنتم أنا) .يقول الشاعر ماكس جاكوب عن جان كوكتو: (ليس جان كوكتو من المحدثين أو من أضدادهم. فإذا ما أُريدَ بالمحدثين الفتوة والطراوة، كان جان كوكتو في طليعة الأحداث . من من جرأةٍ إلّا وهو لها، يطوِّعها على هواه دون لأنْ يخدَعَ بها . لقد تعرَّض للفنون الأدبية كافة ً ولغيرها أيضاً. فجدَّدها لأنَّهُ شاعرٌ قبلَ كل شيء آخر. وإنَّهُ الشاعر بطبيعته ومزاجه وتعبيره، وهذا ما يندر أن تقع عليه. حذار أن تبحثوا عن ضحكته المريرة القاسية بحجّة أنه أكثر البارسيين فكاهة، فهو يعمد إلى الفكاهة لكي يحدد ويصوِّر بطريقة لم يتوصَّل إليها سواء، ولكي يلتقط الصورة الأكثر ضرورة.. فمصدر صوره نظرةٌ إلى الكون ولا أعمق)
هذا هو جان كوكتو الذي يتقن فن اللعب والاستيعاب، فهو كالينبوع الذي لا ينضب والذي هو لِبَلّ الشفتين، وللريِّ لا للانهدار والاندلاق في البحر المِلْح. يقول كوكتو في قصيدة (لست اشتاق الرقاد) :

عندما في الليل أنتِ فوق جِيدي تَرقَدينْ
لستُ أشتاقُ الرقادْ
فأنا أفَكِّرُ بالموت هو اللِّصُّ الخَؤونْ
بَعدَهُ ما من سُهادْ
أنا فتى ، أنتِ تَحْيَيْنَ لِذا لن أهْجَعا !!
يا له ضَيْماً وَرُعْباً
كَيفَ أستطيعُ أنا ألّا بقًربي أسْمعا
نفسا مِنْكِ وقلْبا ؟؟
هل تُرى يُخَلّي ذلك الطيرُ الخَجولْ
عشَّهُ في الحُلْمِ بالقاع
عشَّهُ ، حيثُ برَأْسين لنا الجسمُ يَطولْ
ثُمَّ بالأرْجُلِ أرْبعْ؟؟
إيهٍ لو يبقى مدى الدهر بأعماقي سُرورْ
ينتهي عند الصباحْ
فأرى المَلْكَ الذي يَخْتَطُّ من عمري المصيرْ
مالِئاً دًربي سماحْ
أنا كالطيفِ خفيفٌ تحت ذا الرأسِ الثقيلْ
فهو من جسمي صراخْ

عنوان كبير جداً يَرسُمُ ملامحه ليس على باريس وحدها ، وليس على فرنسا وحدها أيضاً، بل على العالم الذي امتشق بيرق الشعر والفن بتلاوينه ، إنه جان كوكتو الشاعر الملتبس، الذي ترك لنا نتاج ملتبس، فقصائده ملتبسة ، ولوحاته كذلك ومعظم ما قدَّمَ من فنون كانت ملتبسة لأنه كله جنون وصخب السوريالية التي عاصرها وانضم إليها على طريقته الخاصة، التي لم تكن كافية لاحتضان فكرَهُ أو مشاعِرَهُ التي حاول قولها بالقلم والريشة والحركة والموسيقى وأيضاً في السينما عَبْرَ اقتباسات لكتبه . حيث قال أحد النقاد عن كوكتو العديد من الصفات التي أُلصِقَتْ به حين كان شاباً يضج حيوية ونشاطاً في باريس العشرينات وحتى الستينات،يقول: (هو أورفيوس الإغريق المعاصر ، لكن هذا لا يكفيهِ. هو أيضاً أوديب وانتيغون وهورتبيز وتريستان. ولكن هو أيضاً الحيوان الشرس والعنيد والباحث، والأكاديمي الأنيق وابن الشارع والعالم السفلي، هو الأديب المترفع والشاب الوسخ…
لم تكن قصائد كوكتو متفتحة على الرمزية لتأخذ كلماته عبر أخيلته الشتيتة ملمومة كعنقود العنب أو كعِذْقِ النخْلِ ، بل كالثريّا ،، ولم نجده يصبُّ الخمرةَ الجديدة في زقاق قديمة ، فلا تنشق الزقاق ولا تفسد الخمرة ؟؟؟ أي أنَّ أسلوبه في أغلبيته أسلوب القدامى ، بينما روحه على سِنان الجدَِّة، فيه من صديقيه أبولينار وجاكوب، وفيه من وايلد ومالارمه وبودلير . كأنما جمع تقاليد الفن الفرنسي ، منذ مئة سنة. تجمّعت فيه لتلقِّح ذكاءه النافذ ، ذكاءه الجاف ، ذكاءه الباريسي ، حتى لنحسبه من مواليد القرن الثامن عشر، ومن تلاميذ فولتير ، إلا أنّهُ من الثراء الداخلي بحيث يستطيع أن يَمْسَحَ بظاهر يمينهِ جميع هذه التقاليد ، ويُمَثِّلَ دور الابن الشاطر . بخاصة أنَّ حياته منذ الطفولة ، منذ تلك الواقعة السوداء وهو في التاسعة من عمره قد صبغت أيامه التالية بأسْوَدْ الجنازاتْ ، وأحمر الدم الذي رآه بأم عينه قد انعكس على عناوين كتبه ومؤلفاته ، ومعظم نتاجه ، فقد كان قَدَره أنْ تلاحمه مع هذبن اللونين ، الذي اصطبغ وجدانه بهما ، وانعكست على أعماله التراجيدية وكانت مصدر إلهامه وعطائه ، فكانت أعماله لها لون الدم الأحمر مثل: (دم الشاعر )،و( رقصة سوفوكليس) و(وصية أورفيكوس) و(فرسان الطاولة المستديرة) و (الآلة الشيطانية)، كل تلك العناوين كانت صدى عالم جان كوكتو، حيث استخدمها ليدلِّلَ على متابعة ورصد جميع النتاجات المثيولوجية التي انغرست بخياله ووجدانه فتكوَّنتْ من ماضٍ سحيق ، يحمل عفن التاريخ وملوحته،كما انعكست على شخصيات تتطلَّع إلى مستقبل مغلَّف بالغموض والضبابية ، محاولاً توجيهه نحو نهاية النفق الذي ينذر ببصيص ضوء ربما ينقذه من عتمة الماضي المُرْهَق . فقد جنح إلى المسرح الهزلي الموسيقي الراقص ليُقَدِّمَ لنا مسرحية (أعراس برج إيفل) . وعلى الرغم من أنَّ كوكتو يُعَدُّ من كبار الشعراء (الكبار) المحسوبين على طفولة تتأرجَحْ بين وردية وسوداء داكنة ، فقد استطاع أنْ يُبدِعَ مثلما أبدع من سبقوه وعايشوا أمراض الطفولة أمثال (جان جاك روسو )و ( مارسيل بروست) و(شاتوربيان) وغيرهم … فقد قرَّرَ عن عمدٍ مسبق أن ينخَرِطَ بالحياة الباريسية الصاخبة وهو بكامل أناقته الباريسية ملتحقاً بالمجتمع البرجوازي والثقافي محاولاً التأكيد على أنه يمثِّل على الأرض الشخصية الهامة جداً التي ابتدعها في كتابه : (الأمير العابث) .الذي كان سبباً في فرض المكاشفة كشف خفايا أسراره الشخصية الواسعة (الشذوذ الجنسي) مع صديقه في المدرسة (دار غولوس) كان هذا الكشف في كتابه: (الأولاد الرهيبون)، أما صديقه الثاني الممثل المسرحي (ادوارد دوماكس) ومدير الفرقة المسرحية الروسي(سيرج دو دياغيليف) وأيضاً الأديب الفرنسي الذي مَرَّ كالشُهُب في سماء باريس ورحلَ باكراً في العشرين ريمون راديغيه..كل هذا انعكس على أدائه وسلوكه وحتى كتاباته في مرحلتها السوريالية التي عرفت انتقاداً شديداً، ولوماً بادياً من هذه الكتب (الآلة الكاتبة) و(الأهل الرهيبون) هذه الكتب تضمنت أفكاراً هدَّامة ودعوات غير مسؤولة في المجال الأخلاقي والحسي والنفسي! لكنها كانت قد أوصلته إلى شهرة واسعة ,وصلت حدَّ العالميةِ، من خلال ترويج إعلاميٍّ وصلَ ضجيجهَ أنحاءَ العالم ِ وبلغاتٍ مختلفةٍ. استقبلته الصحافة بحفاوة يوم صدور كتابه(الصوت الإنساني) وهو مونولوج مؤثِّر عبر جهاز الهاتف لامرأة تتحدث إلى عشيقها الذي تخلى عنها وتحاول استرجاعه بالطرق الشتى في كلمات ومواقف مؤثرة جداً. هذا الكتاب ترجم إلى لغات عديدة وجعل كوكتو يجوب كل عواصم الثقافة في العالم كواحد من الشعراء الملهمين،فهو رجُل ٌمتشابِكٌ ، فهو الأديب والثوري، المشاكس، المحافظ، الملتبس، الطفل الكبير، الطفل الذي شاب وظل يبحث عن وجوه وأوراق وأسماء ضاعت في الطفولة. الذي اتجه إلى عالم الأفلام وسحرته هذه اللغة بجمالياتها، وبعد أن كان قد كتب وترجم الشعر في كل المجالات، ألَّف شعرياً للسينما روائع لم تبقَ في إطار جمهوره الضيِق،بل أصبح له الجمهور العريض الذي لم يتمكن من استيعاب كل جنونه الإبداعي لكِنَّه تلمس جماليات مغايرة معه . وكانت السينما في أوج تألقها، فقد أبدَعَ جان كوكتو كمخرج بخاصة في مجال الأفلام)الوثائقية الواقعية لأحداث خيالية خارقة(ـ حسب تلخيصه له ـ لمؤلفه)دم الشاعر(الذي استحوذ على اهتمام المحللين في الطب النفسي، لكنه انخرط أكثر في اللغة السينمائية مع فيلمه الثاني)الجميلة والوحش(عام وبعده في الفيلم )وصية اورفيوس(عام وقد ساعده على إنتاجه حينذاك المخرج الشاب)فرنسوا تروفو). في هذا الفيلم، وكان كوتو على أبواب السبعينات، وضع كل شعره وأحلامه وأحزانه، كما أظهر الجانب الفانتازي والمهلوس في روحه، وكأنه فيه يرسم وصيته الخاصة، لا وصية أورفيوس الأسطورية. لم يعرف في ذلك الحين فيلمه نجاحاً كبيراً وقال عنه: (إنه لغة مستقبلية، وربما ليس هو مصنوعاً لهذا الزمن).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى