أدب

الآليات السردية في قصيدة ” الماء والبارود ” لنازك الملائكة

أهم العناصر السردية: الحدث والوصف والمكان

بقلم: د . عواطف يونس

انفتح النص الشعري المعاصر علي بعض الأنواع الأدبية كالسرد وغيره من الفنون الأخرى مستفيدا منها، مما أكسبه أبعادا جديدة أضافت إلي رؤية الشاعر وموقفه من العالم، وأخذت بعض الآليات السردية طريقها إلي النص الشعري، منصهرة فيه، ومتحولة إلي دال شعري، ومن ثم يمكن القول: إن السرد في الشعر “يتأطّر في أنه مجري يسري فيه الشعر، وأن شعريته تكمن في الاسترسال والانسيابية والتدفق المتنامي” (1) ومن هذا المنطلق أخذت الآليات السردية تمارس حضورها، وتؤكد حركتها في بنية النص حتى أصبحت واحدة من الجماليات التي يتكئ عليها، مؤكدة بذلك تفاعل وحدة الأنواع وتحاورها.

وقد اعتمدت هذه القراءة لقصيدة “الماء والبارود” لنازك الملائكة علي مجموعة من الآليات السردية التي تحققت داخل هذا النص الشعري، ومن أهم هذه الآليات آلية (الشخصية) بوصفها من أهم العناصر السردية، ثم اعتمدت علي آلية (الحدث)، ثم تناولت آلية (الوصف) من خلال وصف الشخصية والمكان، وذلك علي النحو التالي : ـ

• الشخصية: تعد الشخصية من أهم الآليات السردية في الخطاب الشعري المعاصر، وإذا كان صوت الراوي في الخطاب الشعري هو صوت الشاعر مهما اختلفت صور حضوره، فإنه ليس هو الشخصية الوحيدة التي يمكن أن نراها في النص السردي، وقد نجد في بعض النصوص الشعرية إلي جانب صوت الراوي بعض الشخصيات الأخرى التي لها دورها الفاعل داخل بنية النص .

وقد تتجلي الشخصية داخل النص إما عن طريق (الضمير) الذي يحيل إليها، وإما عن طريق (الدور) الذي تؤديه هذه الشخصية. وإذا كانت الشخصية في العمل السردي عموما توظف لإنجاز الحدث الذي وكّل الكاتب إليها إنجازه، فإنها في الخطاب الشعري قد لا تقوم بمهام محددة لها من قبل السارد ، ولكنها أيضا قد تحمل مخزونا دلاليا في الوعي الجمعي إذا ارتبطت لديه بزمان ما ومكان ما خصوصا الشخصيات التراثية التي ارتبطت بواقعها، وأصبحت تستدعي حدثا واضحا في ذاكرة الوعي الجمعي، و” تحقق العناصر التراثية في الخطاب الشعري المعاصر ثراء وحركة نصية تعتمد علي التموج ، والتدفق تتماهي في إطارها الأزمنة و الأمكنة والأدوار، فتخلق أفقا سرديا، لذا أقبل الشاعر المعاصر علي تراثه بنهم يمتاح من ينابيعه السخية أدوات يثري بها تجربته الشعرية، ويمنحها شمولا وكلية وأصالة، وفي الوقت نفسه يوفر لها أغني الوسائل الفنية والطاقات الإيجابية وأكثرها قدرة علي تجسيد هذه التجربة وترجمتها ونقلها إلي المتلقي” (2)

وتختلف المساحات النصية التي تسيطر عليها هذه الشخصيات طبقا لمهارة توظيفها، وطرق استدعائها، وقد لجأت الشاعرة (نازك الملائكة) إلي استدعاء الشخصيتين التراثيتين (هاجر ـ وإسماعيل) لما تتميزان به من شهرة واسعة، ورصيد معرفي كبير في ذاكرة الوعي الجمعي، ولأنهما تسهمان في خلق إيقاع سردي، ومساحة سردية تثري النص الشعري، وتمنحه خصائص جمالية متنوعة. تقول نازك الملائكة:
رباه فجّر بين أيدينا عيون الماء
هاتِ اسقنا يا رب من لدنك كأس رحمة مطهرة
هاتِ اسقنا كما سقيتَ الطفلَ إسماعيل
كما رويت أمه الوالهة المنكسرة
بعد هيام ضائع طويل
في مدن العويل (3)

وتختلف مستويات السرد في توظيف الشخصية التراثية، فالراوي أحيانا يتلبس الشخصية ويتماهي معها، ويضفي عليها معطيات عصرية تتفق مع واقعه مع احتفاظها بمعطياتها التراثية، رغبة منه في خلق زمنيين متضادين في آن تقول نازك الملائكة :
يا هاجر الحزينة اهدئي
ريانة هذي الرياح أقبلت ، تحمل أحلي نبأ
لطفلك الصارخ في دثاره المهترئ
تقطر الرياح حبا في شفاه الطفل إسماعيل
تلمس خديه بعطر نسمة بليل
وتسكب الحياة والخضرة في كيانه النحيل
وقالت الرياح : إسماعيل
فردد البيت العتيق تحت حر الشمس : إسماعيل
وانحنت السماء قوسا أزرقا يلثم إسماعيل (4)

ثم توضح نازك الملائكة انفراج الأزمة عند هاجر وعند الجنود في المعسكر، وذلك من خلال مزج الحدث القديم (هاجر ورحلتها في البحث عن الماء لإنقاذ ابنها الطفل إسماعيل)، وربطه بالحدث الجديد (حالة الجنود الصائمين في المعسكر وبحثهم عن الماء)، لتحقق وحدة ينفتح من خلالها عالم النص .. تقول الشاعرة :
الله أكبر
ضجّ بها المعسكر
يا صائمون انتظروا
إن وراء جدبكم جذر حنان سوف يزهر
وخلف حيرة العطاش كوكب أضاء
ورحمة من ربكم تنحدر
الله أكبر
يا صائمون ربكم قد سمع الدعاء
والطائرات أقبلت تهدر في الفضاء
تقذفكم صواعقا وتمطر
علي روابيكم لظى حرائق
تريد أن تغرقكم في برك الدماء
والله في سمائه يقدر
يدبر
يمطر فوق صومكم أنداء
يسقيكمُ من يد أعدائكم أحلي كؤوس الماء (5 )

•  الحدث : جاءت شخصيتا (هاجر ـ و إسماعيل) في متن النص، وتم استدعاؤهما عن طريق الحدث، حيث تحكي نازك الملائكة هذا الحدث: “أن فرقة من الجيش المصري في سيناء ـ أثناء حرب أكتوبر/ رمضان، كان أفرادها صائمين، وحان موعد الإفطار، وقد نفد الماء عندهم فراحوا يتضرعون إلي الله، فجاءت طائرات إسرائيلية وقصفت المعسكر، فتفجّر الماء من الأرض حيث كانت مواسير المياه اليهودية مدفونة ” (6 )

وإذا كان الحدث يمثل الركيزة الأساسية بالنسبة للعناصر السردية الأخرى في الخطاب الأدبي، فإن نازك الملائكة تشكل الحدث في قصيدتها (الماء والبارود) منطلقة من الواقع الجديد (واقعة الجنود)، واستدعاء واقعة الماضي (واقعة هاجر وإسماعيل والبحث عن الماء)، وهو ما يضفر علاقة حية بين السرد والتراث، ومن خلال جدل العلاقة بين الشخصية والحدث من ناحية، ومن خلال الراوي الشخصية والحدث من ناحية أخري تتكشف الرؤية، وتتماهي الأزمنة ، وتتحرك الشاعرة في إطار الزمن المتموج: الماضي/ الحاضر .. تقول نازك الملائكة:
ومن لهاث العطش القاتل باتوا يشربون حرقة الهواء
عيونهم تستمطر السماء
رباه فجّر بين أيدينا عيون الماء
هاتِ اسقنا يا رب من لدنك كأس رحمة مطهرة (7 )
………………….
………………………
الطفل إسماعيل يبكي عطشا
لم يبقَ في خديه لون وقمر
وهدبه يسح إيقاع مطر
وغصن جسمه ذوي وارتعشا
وانكمش الوجه الوضي المقمر
وفي تراب مكة تبعثر الشعر الجميل الأشقرُ
وقلب أمه الحزين برعم منهَصِرُ
ودمعها علي مرايا وجهها ينحدر
تهيم في العراء
تجتاز سهول النار في ذهولها وتعثر
ويكتوي من دمعها المحموم حتى الحجر (8 )

• الوصف: يمثل الوصف آلية فاعلة، وعنصرا مهما من عناصر السرد التي لا يستطيع السرد أن ينهض بدونها “فالسرد لا يقدر علي تأسيس كيانه بدون وصف ” (9)، وللوصف في قصيدة الماء والبارود لنازك الملائكة وظيفة دالة في إطار سياق الحكي، إذ جاء ضروريا لإلقاء الضوء علي بعض الأحوال والمواقف التي تخدم النص، وتفتح المجال لكي تمارس اللغة حضورها الفاعل .
ويقوم الوصف في هذه القصيدة باستحضار حالة الشخصية وعالمها، حيث استدعت نازك الملائكة شخصيتي (هاجر ـ وإسماعيل) عبر آلية الوصف الذي يحقق مساحة سردية شعرية خالصة في الوقت الذي يفجر فيه تجلي هذه الشخصية نشوة ما ” لأن استحضار الشخصية الماضية التي لها حضور في وعينا يمثل دفء الماضي ” (10)

وقد لجأت الشاعرة إلي وصف المكان ومعطياته وعالمه الذي يزخر بالحركة والتموج في الوقت الذي يشكل أفقا سرديا لتخبر المتلقي ـ بطريقة ما ـ بأحوال المكان الذي تسرده عليه، ويتحرك السرد في ظل الوصف الذي يتداخل فيه الزمان والمكان، تقول الشاعرة :
رمل …. وريح تزفر
وبطن واد ساكن معفر
ينهض في جانبه العطشان بيت الله
وخيمة صغيرة لهاجر … وليس من حياه
لا ظلل ندية لا مهد أعشاب ولا مياه
وصوتها يهتف : إبراهيم !!
لأين تمضي مسرعا ؟ ، لأين إبراهيم؟
وفيم قد تركتنا في قلب رمضاء هنا نهيم؟
لا حب لا شفاه
………..
…………
وليس من شاة هنا فما الذي سننحر؟
وليس من شجرة تظللنا وتثمر
وليس من سحابة تمنحنا رشاشها وتمطر
ويهتف الصوت الحزين:
أين قد تركتنا ؟ وفيم إبراهيم؟
ويختفي خلف التلال شخص إبراهيم
وهاجر باكية والطفل إسماعيل فوق صدرها يتيم (11)

وعلي ضوء ما سبق يتضح أن الوصف في قصيدة (الماء والبارود) يقوم بفاعلية سردية تحدث جدلا يتماهي من خلاله الزمان والمكان، واستطاعت الشاعرة من خلال الشخصية التراثية الواقعية (هاجر) التي تم استدعاؤها عن طريق الحدث أن تمارس حضورا دلاليا لمواجهة الواقع، لما تحمله هذه الشخصية من ثراء دلالي .

المراجع :
1 ـ عبد الرحمن عبد السلام محمود : السرد الشعري وشعرية ما بعد الحداثة ، القاهرة: مركز الحضارة العربية ، 2009 ، ص 19
2 ـ عبد الناصر هلال : آليات السرد في الشعر العربي المعاصر ، القاهرة : مركز الحضارة العربية ، 2006 ، ص105
3 ـ نازك الملائكة : ديوان ( يغير ألوانه البحر ) القاهرة : الهيئة العامة لقصور الثقافة ، آفاق الكتابة ، العدد ( 20 ) ، 1998 ، ص 48
4 ـ السابق : ص55
5 ـ السابق : ص 56 ـ 57
6 ـ مقدمة قصيدة الماء والبارود بالديوان : ص45
7 ـ السابق : 48
8 ـ السابق ص52 ـ 53
9 ـ جيرار جنيت : حدود السرد ، ترجمة ابن عيسي بوحماله ، طرائق التحليل السردي ، الرباط : اتحاد كتاب المغرب ، 1992 ، ص 76
10 ـ مراد عبد الرحمن مبروك : آليات السرد في الرواية العربية المعاصرة ، القاهرة : الهيئة العامة لقصور الثقافة ، كتابات نقدية ، العدد ( 100 ) مارس ، ص 124
11 ـ الديوان : يغير ألوانه البحر ، مرجع سابق ، ص50 ـ 51

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى