مخيم الركبان في “قيامة اليتامى”

أحمد خميس | ألمانيا

انطفأت الأضواء فجأة ليملأ المكان صوت وكأنه صوت ريح خفيفة تتسلل إليهم من كل الجهات تبعه صوت ارتطام أمواج حاد..
أومض الجدار خلف المسرح بشاشة زرقاء وبزئبقية أصبحت الشاشة سوداء عائمة لتتبعثر حروف من زواياها كلها بألوان مختلفة وراحت تدور في فلك واحد وبسرعة شديدة لتنتهي بعبارة مكتوبة باللون الأبيض تليها اشارة استفهام عملاقة
(الطيف)
كتُبت هذه الحروف بخط النسخ نافرةً كورمٍ على سطح الشاشة..
وبصوت يتراوح بين المديد والهادل راح يحاصر الحضور من كل الجهات، والشاشة قاتمةً قاتمةً قاتمة .
استمر ذلك لثوانٍ حتى بدأ السواد بالانقشاع كغيمة مسرعة نحو الجنوب ليختفي صوت ارتطام الأمواج تدريجياً وليظهر على الشاشة وبلقطة عريضة ذات دقّة عالية صحراء واسعة مترامية الأطراف ومع تحليق عين الكاميرا عالياً باتت الصحراء تتسع وبلقطة كاملة هذه المرة ظهرت بقعٌ متناثرة في هذا المدى الصحراوي الواسع، أخذت الكاميرا تهبط رويداً رويداً مبتعدةً يساراً عن البقع العشوائية التي تراءت للعين فجأة إلى أن أصبحت على بعد أقل من نصف متر عن سطح هذه الحمادة وشرعت تحلق كالصقر إلى أن بدأت تَلُوح بعض الوجوه المنهكة وسط أماكنٍ كأنها خيام .
عجوز يلفُّ وجهه و رأسه بشال أبيض متكوراً على نفسه مثل كرة نسيج تالفة. شاحب تكاد عظام وجنتيه أن تخترقا جلده الهش الذي لا يشبه إلا كيس مصباح بائد. وعلى حدبته يجثم سيزيفاً كله وصخرته.
وما أن أشاح بعينيه الحمراوين ببطء نحو الكاميرا حتى هربت منه وغادرته بسرعة لتدخل في خيمة أخرى .
وقفت العدسة مرتجفة وعاينته من رأسه حتى أيبسه
رضيع كأنما لعظام قفصه الصدري اصطكاك، لا شيء أكثر من جلد رقيق يربط ما بين حوضه وجذعه، يتكوم الذباب على فيه الفاغر وحنكه المدبب وجمجمته التي بدت أضخم مما ينبغي لرضيع.
غائرة عينيه الكبيرتين في محجريهما مثل درّتين زائفتين في قعر جب مظلمة.
وبدون استئذان خرجت الكاميرا كما دخلت كأنما لم تعد تقوى على رؤية ما رأت..
راحت تحوم تائهة وسط الخيام، نساء بثياب بالية،
مغبرة.
أطفال يتضورون جوعاً يأكلون من الأرض دبيبها وصراصيرها، وعجائز على شفير الموت خاوية بطونهنّ ملأى بالعذاب .
وفتاة كأنما كانت ذات يوم جميلة، صفراء شاحبة أغبر شعرها يرتطم العجاج بوجهها، أقبلت نحو عين الكاميرا المرهقة، أخذت تقترب شيئا فشيئاً والكاميرا تعود للخلف مذعورة هلعة لترتطم بخيمة مغطاة بالتراب.
تجمّدت العدسة مثل من يتهيأ للهزيمة الكبرى حينما وقفت تلك الصبية في مكانها وشرعت تقول ودمع كلؤلؤ ينحدر من أجفان عيونها سالكاً وجنتيها النحيلتين المغبرّتين صوب الأرض .
أتدركون معنى الموت جوعاً وسط صحراء كهذه ؟
بالطبع ….
بالطبع لا تدركون .
لا تدركون معنى أن يهدم الجسم بعضه أن يتغذى على نفسه نحن نأكل نفسنا، نحتسي أملاحنا وكل ما نحتوي من سوائل .
نحن نقضم عضلاتنا وأنسجتنا لنبقى كما ترون أجساد كأنما خرجت من قبورها قبل حشرها..
ماذا يطلق على الأموات جوعاً؟
ما تصنيفهم في قواميس إنسانيتكم ومبادئ حقوق الإنسان لديكم؟
استدارت الفتاة وراحت تمشي بهدوء في الفلاة التي بدت جحيماً سرمديّاً لا بداية له ولا نهاية، ورياح العجاج تتلاعب بخصلات شعرها كيفما شاءت.
سقطت الكاميرا على وجهها وكأنها تموت كما يموت كل يوم هؤلاء الناس جوعاً .
وراحت الشاشة تتدرج من أفتح درجات الأسود الى أن أصبحت سوداء بالمطلق .
وبحروف إنكليزية بيضاء ارتصفت بخجل بجانب بعضها مشكلة كلمة واحدة بأحرف كبيرة
E L R U G B A N C A M P

مخيم الرگبان .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى