فكر

الشاعر الفرنسي جول رومان.. مبتدع النظرية الإجماعية

Jules Romains (1885 ـ 1972)

بقلم : عماد خالد رحمة ـ برلين
     ولد الشاعر والروائي والمسرحي الفرنسي جول رومان Jules Romains، في سان جوليان شابتول Saint-Julien Chapteuil واسمه الحقيقي لوي فاريغول Louis Farigoule، وتوفي في العاصمة الفرنسية باريس التي قَدِمَ إليها مع أسرته وهو ما يزال طفلاً صغيراً، حيث أمضى سنواته الأولى في مونمارتر ـ باريس، وتلقى دروسه الثانوية في ليسه كوندروسه، انتقل بعدها إلى دار المعلمين العليا التي تخرج فيها في قسم الفلسفةعام 1909م.وأسهم في تأسيس جماعة تحوَّلت إلى (الحياة الإجماعية). بعدها أصدر ديوانه الأوّل تحت عنوان:(نفْس البَشَر) توَّجته جمعية الشعراء الفرنسيين عام 1919م باهتمام كبير وروّجت له، التي تبنت الديوان ونشرته .
إنَّ من يقرأ قصائد هذا الديوان يستشف معالم النظرية الشعرية الذائعة الصيت التي نادى بها الشاعر جول رومان باسم (الإجماعية Unanimisme) في هذا السياق قال في أحد نصوصه المنشورة في تشرين الأوّل عام 1903م : (بينما كنت أصعد شارع امستردام في باريس، وهو يعجّ بالمارّة، انتابني لأوّل مرّة حدس بأنّ هناك كائناً بدائياً ورحباً. يتكوّن جسده من المارّة والشارع والسيارات، ويجرف إيقاعه، أو يغطي ايقاعات الوجدانات الفردية). لقد ابتدع جول رومان الإجماعية وقدّم تنظيراً لها بعد أن تبناها، كونها إعارة الأشياء الاجماعية ما لها من أهمية، إنها حالة من اقتناص المشاعر الجماعية التي تهدر في أعماق البشر، في نفس المواطنين البدائية، في قريةٍ من القرى، في مدينةٍ من المدن، في أمةٍ من الأمم، أوفي قارةٍ من القارات. إنّها التعبير الصادق والصريح عن تلك المشاعر بأسلوب شعري مباشر، لا يتعمّد التورية ، بل ينقل بأمانة كلّية صادقة أحاسيس وشعور هذا الكائن الذي يلتصق بالحياة الملحّة والمباشرة، التي تدبّ في الإنسانية إيقاع الكون الواسع الأرحب. يقول في قصيدة نشيدة :

رجلان ثمَّة في ارتحالْ
حيث يصبح الديك في الوادي :
وجملة الأشجار في التلال ْ
في حمرةٍ أضحت وفي سوادِ

ضبابةٌ كيفةٌ كالنَفْسِ
كأنها تحلم ما ترى .
والكلّ قد أضحى بلون الأمسِ،
والنومِ والذِّكرى.

بالرّغم من تشرين ، فالشبّاكْ
مشرعٌ للأفقِ في جانبي،
والموقد الصغير في عراكْ
مع هواء الغرفة العاليةْ.

حرارةٌ كأنّها لحميةْ
تخرج في هدءٍ من الغرفة ِ
تلفّ جسمي أيما لفّةِ
تماذج أنفاسيَ السرّيةْ

لا ، لست من يرجو ومن يريدْ
غير سلام القاع ْ
وليس بي التياعْ
ليصبح الحاضر خلودْ

فأنا مثل مسافرْ
بلغ المساءِ صحن الفندقِ
باسماً لكنّه قد ظلَّ ذاكرْ
أنّه ليس بأرض المطلقِ.

هذه النشيدة التي تتطلّع إلى المطلق وإلى الصفاء والنقاء الأكمل، بل التي تشرئبت إليهما إشرئباباً، لا كأنهما عقلانيات وتجريدات، بل لما هما عليه من التصاق بالواقع الأرحب والأوسع، إنها واحدةٌ بين أخواتٍ لها عديدات في مجاميع جول رومان الشعرية، وخصوصاً في مجموعته التي ظهرت عام 1913م بعنوان:(أناشيد وصلوات Odes et Prières)، وهي تحفة رائعة مصغَّرة، تحفة من حيث مدلولها الأشمل. وتحفة من حيث الصياغة. هذه الصياغة لها حكاية خاصة عند الشاعر، فهو يقول: (بما أنَّ وجود البيت الشعري مشدودٌ، من جهةٍ أولى، إلى مستندٍ عروضي محتوم، عنينا به المقاطع (الأسباب والأوتاد)، ومن جهةٍ ثانية، إلى العلاقات الجرسيّة الموسيقية، فإنَّ الشاعر (الإجتماعي) يضيف القضيتين التاليتين: القضية الأولى، طبيعة الايقاع نفسها تجبر الشاعر على تكرار التأثير الإيقاعي. فالبيت، مبدئياً، لا يمكنه أن يستقيل. إنَّ لكلِّ بيتٍ نظيراً. القضية الثانية طبيعة الجرس الموسيقي نفسها تتيح له أن يواجه علاقاتٍ جرسية موسيقية غير القافية، ومواقع للجرس الموسيقي غير التي تقع في نهاية البيت).
لقد أغرق الشاعر جول رومان ومن لفَّ لفّه، بتطبيق هذه النظرية على قصائدهم وأشعارهم، إلّا أنّ إغراقهم هذا أبعدهم عن (النثرية) التي تورط فيها الكثيرون من المحدثين ، وجنّبهم هذا المنزلق الخطير .
كما كتب العديد من القصائد الجميلة الهامة منها:(الرجل الأبيض L’Homme blanc) الصادرة عام 1937 م، والقصيدة الثانية جاءت تحت عنوان : (منازل Maisons ) الصادرة عام1954م .
في هذا السياق يبقى أن نشير إلى أمرين اثنين يتحدران من نظرية (الإجماعية Unanimisme) التي قال بها الشاعر جول رومان.
أمّا الأمر الأوَّل فهو أنَّ الشاعر جول رومان قد شعّب تفكيره ونشاطاته إلى درجة جعلت من نتاجه موسوعةً برأسها، سواءٌ في الحقل الشعري أو الروائي أو المسرحي أو السينمائي أو الفلسفي أو العلمي .
وأمَّا الأمر الثاني (الإجماعية Unanimisme) فهو أنَّ شاعرنا توصّل، عقيدةً، إلى ما يشبه (الحلوليّة solutionnisme). ولربَّ قبّة أصلها حبّة .
إنَّ دراسة الشاعر جول رومان للفلسفة، وقيامه بتدريسها لمدة عشر سنوات بعد أن حصل على شهادة التبريز Agrégation في الفلسفة عام 1909م وهي أعلى شهادة جامعية للتدريس في التعليم الثانوي أو العالي وهي في الأهمية تأتي مباشرة بعد الدكتوراه، وهي عبارة عن مناظرة انتداب، أي أنّ الناجحين في الحصول على شهادة التبريز يلتحقون مباشرة بوزارة التربية أو بوزارة التعليم العالي ويباشرون التدريس في خطّة أستاذ مبرز. لكن اهتماماته في المجال الأدبي برزت عام 1903، فكان نشيطاً في هذا المجال، مما جعل منه مدافعاً وممثلاً بارزاً لتيار الإجماعية Unanimisme .فقد تأثّر بأفكار ذلك التيار وكان واضحاً هذا التأثلير في جميع مؤلفات جول رومان، فقد تجلت بدايةً في قصائده الأولى التي تغنّى بذلك التيار في ديوانه (الحياة الاجماعية La Vie unanime) الصادر عام 1908 م وكان لذلك التواصل قيمتان هامتان خلاّقتان تؤسسان لحياة الجماعة (الإجماعية) وترقيان بالمشاعر والانفعالات الفردية إلى الروح الجماعية الخلّاقة ،المبدعة.
الجدير بالذكر أنّ النزعة (الإجماعية Unanimisme) تجسّدت في حركة شعرية عارمة ظهرت في المرحلة الفاصلة بين نهاية التيار الرمزي الذي كان تياراً أدبياً متمرداً في فرنسا في أواخر القرن التاسع عشر واستمر حتى بداية القرن العشرين، والتي يقسمها النقاد إلى مراحل أو أطوار تبدأ من الشاعر والناقد الفني الفرنسي (شارل بودلير Charles Baudelaire) و(جان نيكولا آرثر رامبو أو آرثر رامبو (Arthur Rimbaud وغيرهما وبداية المدرسة السريالية الفوق واقعية (Surréalisme) في فرنسا وكان الشاعر جول رومان يرى أن هناك كائناً واسعاً وبدائياً بنفس الوقت يتألف جسده من الشارع والسيارات والمارة ـ كما أسلفنا ـ ، ويمضي إيقاع هذا الكائن الممزوج بكل تلك التيارات بإيقاعات المشاعر الفردية أو يغطيها. وقد تأثر في حينه بنظريات علم نفس الجماهير الذي أبدعه الطبيب النمساوي سيغموند فرويد والذي أصدر كتاباً بنفس العنوان، ونظريات عالم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي، دايفيد إميل دوركايمDavid Émile Durkheim) ) أحد مؤسسي علم الاجتماع الحديث. وكتابات الكاتب والروائي الفرنسي إميل فرانسوا زولا (Émile Zola)‏، إلّا أنّ تأثيرالعلوم الفلسفية التي تلقاها كانت طفيفة جداً في ديوانه الشعري (أناشيد وصلواتOdes et Prières) الصادر بين الأعوام 1909 وحتى 1913) م. وديوانه بعنوان (كان يمشي Un être en marche) الصادر عام 1910 م يمكن مقارنته بكل مجالات الوصف والشرح والإطراء التي خصصها الشاعر رومان للأنشطة والفعاليات الإنسانية .
لم يتوقف الشاعر جول رومان عن كتابة الشعر فقط بل تعداه لكتابة الرواية والقصة والمسرح، فقد نشر قصة (الأصدقاء Les Copains) في العام 1913 م .تلك القصة اتسمت بطابعها الفكاهي الذي خفّف نوعاً ما من حدّة طموحه الإصلاحي، فقد بيّنت قصة ( الأصدقاء ) أنّ روح الدعابة والخيال يمكن أن يسودا ضمن المجموعات والنتاجات وحتى الملتزمة منها .
أما ما قدمه في مجال المسرح فقد ظهر بين عامي 1920و1930م وقد غلب عليه الطابع النقدي التكهمي الذي لقي نجاحاً كبيراً .فقد كتب عملين مسرحيين هامين عالج فيهما الحوادث الغريبة والقصص الهزلية التي تضمن العديد من المواضيع السهلة المبسطة والكوميديا الشعبية، فقد جاء العمل المسرحي الأوَّل بعنوان:(كنوك أو انتصار الطب Knock ou le Triomphe de la Médecine) الصادرة عام (1923) م. ومسرحية (دونوغو Donogoo) الصادرة عام 1929 م .وهذين العملين من أهم أعماله. فقد احتوتا على معلومات لابأس بها من النقد الجدي المتواصل للعلم والطب وهذا ما ساهم في جعلهما معاصرتين لهما أهمية خاصة، ومرتبطتين بالهموم الإنسانية الراهنة.
اهتم الشاعر جول رومان في الشؤون السياسية والاجتماعية والتاريخية فقد أنجز خلال عامي 1032 و1946 مشروعاً ضخماً في المجال الأدبي تجاوز السبعة والعشرين جزءاً جاء تحت عنوان : (الرجال ذوو النية الحسنة Les Hommes de bonne volonté) تضمن الحدي عن الشؤون الاجتماعية والسياسية والتاريخية في القارة الأوروبية بين عامي 1908 حتى 1933م. الجدير بالذكر أنّ هذا المنجز الضخم قد اغتنى بالمفاهيم والأراء للنزعة (الإجماعية Unanimisme) فقد رمى في هذا العمل الضخم إلى تصوير الحياة اليومية كلها ويرسم ملامح المجموعات معتمداً على عدد كبير من الشخصيات الفاعلة والتي لها دور كبير في المجتمع، مبتعداً عن متابعة مغامرات بطل ما أو شخصية كاريزمية مهما علت قيمته.

وهنا يبتعد الشاعر جول رومان عن أسلوب الكاتب والروائي والمسرحي والناقد الأدبي الفرنسي (أونوريه دي بلزاك Honoré de Balzac‏) من رواد الأدب الفرنسي في القرن التاسع عشر في الفترة التي أعقبت سقوط نابليون بونابرت .وبلزاك كان يصوِّر عالماً ثانياً هو في الحقيقة انعكاس وتفسير للواقع بكل مآلاته في آن واحد، في حين يسعىى جول رومان نقل القارئ إلى عدة بلدان وإطلاعه على أنشطة وفعاليات عديدة ومختلفة من اجل إقامة وسيلة تواصل حقيقية من خلال الحوار الذي يستند دائماً إلى نوايا الإنسان الطيبة. ولم تستطع الحربان العالميتان الأولى التي نشبت بدايةً في أوروبا من 28 حزيران1914 وانتهت في 11 تشرين الثاني 1918. والحرب العالمية الثانية التي نشبت في الأوّل من أيلول من عام 1939 في أوروبا وانتهت في الثاني من أيلول عام 1945م .ولا الصراعات السياسية والأمنية والاجتماعية التي هزت القرن العشرين تشويه النزعة الإنسانية العميقة جداً لدى الشاعر جول رومان، كما لم يؤثر العنف والقهر والظلم والعدوانية على مشروعه في الانسجام والسلام العالميين.
انتسب الشاعرجول رومان إلى الأكاديمية الفرنسية وأصبح عضواً فيها عام 1946 م. وانتج لاحقاً العديد من الأعمال الأدبية تراوحت بين الرواية والمذكرات، فكانت رواية (برتران دي غانج (1949) Bertrand de Ganges) الصادرة عام 1946 م، ورواية (ابن جرفانيون (1956) Le Fils de Jerphanion) الصادرة عام 1956م، ورواية (مذكرات السيدة شوفريلMémoires de madame Chauverel)، الصادرة عام 1957 م. أما آخر ما كتب فكان حديثه عن نفسه وعن أهم الذكريات التي عاشها مع أصدقائه وصدرت تحت عنوان (صداقات ولقاءاتAmitiés et Rencontres ) في العام 1970 م . وتوفي في العام 1972 م .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى